هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
خان الأحمر، الضفة الغربية المحتلة- ثلاثون دقيقة بالكاد هي المدة التي يستغرقها الانتقال بالسيارة من القدس إلى التجمع البدوي في خان الأحمر، على الطريق الرئيسي المؤدي إلى أريحا في الضفة الغربية.
ولكن لا يوجد منعطف للخروج من الطريق الرئيسي، الأمر الذي يلجئنا إلى توقيف السيارة على جانب الطريق والقفز من فوق الحواجز المعدنية وقطع الطريق إلى الجانب الآخر في مواجهة السيارات القادمة بسرعة، ثم تسلق التل المرتفع وصولاً إلى القرية.
يعيش في خان الأحمر 173 إنسانا، جلهم من الرعاة البدو الذين استوطنوا هذه البقعة منذ أزمان سحيقة. إلا أن الدولة الإسرائيلية عازمة على إزالة هذه القرية لإتاحة المجال أمام مستوطنة كفار أدوميم المجاورة لتتوسع.
قبل ثلاثة أسابيع، وبعد معارك قانونية استمرت لعدة سنين، حصلت الحكومة على الضوء الأخضر من المحكمة العليا لإعادة توطين البدو، حيث حكم القاضي بأن بإمكان الدولة المضي قدماً في الهدم لأن البدو لا يملكون رخصاً للبناء. إلا أن ذلك ضلال وبهتان، فالبدو لا يملكون وسيلة للحصول على رخص للبناء.
لم يعد أمام البدو سوى انتظار وصول الجرافات والجيش الإسرائيلي لحملهم على الرحيل من أرضهم.
ولقد تم تحديد موطن جديد لهم بجوار مكب نفايات في القدس الشرقية. لا يوجد في هذا الموقع داخل المدينة، والذي لم تكلف الدولة نفسها استشارتهم في أمر اختياره، حيز يتيح لهم رعي أغنامهم، كما لا تتاح لهم فيه فرص عمل أخرى. ويقول البدو إن الموطن الجديد المقترح تنبعث منه الروائح الكريهة، وهو ملوث بالمواد السمية ولا يصلح إطلاقاً لأن يعيش فيها البشر.
يرافقني في جولتي مرشد من منظمة حقوقية إسرائيلية اسمها بيتسيلم. وعندما وصلنا القرية استقبلنا إبراهيم الجهالين. كانت ابنته البالغة من العمر أحد عشر عاماً تلعب بالجوار. سألته عما سيفعله عندما تصل الجرافات.
قال لي: "ولماذا يتوجب علي أن أترك هذا المكان وأرحل إلى أي مكان آخر؟ لقد ولدت هنا، وهم الذين جاءوا من بعد. لن نغادر، مهما حصل. سوف نبقى هنا".
سلسلة من الإهانات
يعتبر التهديد بنقل البدو من موطنهم آخر حلقة في سلسلة متعاقبة من الإهانات التي يتعرض لها البدو الفلسطينيون على أيدي الإسرائيليين.
ينتمي عرب الجهالين إلى قبيلة كانت في الأصل قد طردت من صحراء النقب حين أخرجهم منها الجيش الإسرائيلي في خمسينيات القرن الماضي، فانتقلوا إلى حيث توجد في الجوار الآن مستوطنة كفار أدوميم التي طردوا ثانية من موقعها.
تحرم إسرائيل البدو من الاستفادة من الخدمات العامة ومن البنية التحتية الأساسية، تماماً كما تفعل مع معظم الفلسطينيين الذين يعيشون في المنطقة "ج" داخل الضفة الغربية، ومن ذلك أنه لا يسمح لهم بالوصول إلى شبكة الكهرباء. وفي عام 2015 صادرت الإدارة المدنية الإسرائيلية 12 لوحة شمسية كانت قد قدمت كتبرع للبدو، ثم تمكن البدو من استعادتها فيما بعد على إثر معركة قضائية طويلة.
ولا يسمح لهم باستخدام الطريق السريع الذي يصل ما بين أريحا والقدس، على الرغم من أنه بالكاد يبعد عنهم 100 متر، وبإمكان المرء سماع أصوات السيارات العابرة فوق الطريق من داخل القرية البدوية.
قال لي إبراهيم: "يستغرقك الوصول إلى أريحا عبر الطريق السريع عشر دقائق، ولكن نظراً لأننا مفصولون عن الطريق، فإن الرحلة تستغرقنا نصف ساعة".
ويترتب على هذا العزل تداعيات مأساوية. فقد إبراهيم ابنته آية في حادثة محلية، ويرى أنها فقدت حياتها بسبب التأخر في نقلها إلى المستشفى، ويقول: "لقد ماتت، وكان يمكن إنقاذها".
جلست أتحدث مع إبراهيم داخل فناء مدرسة بالجوار، وعلى مسامعنا أصوات التلاميذ وهم ينشدون داخل الفصل. وحتى هذا الموقع، الذي يخدم ما يزيد على 150 تلميذاً يقدمون من التجمعات السكانية المجاورة، مهدد بالهدم والإزالة.
حدثت إبراهيم عن الغضب المتنامي داخل بريطانيا وفي الغرب عموماً إزاء خطة هدم وإزالة قريته. وقلت له إن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون يشعر بقلق شديد وإن مائة نائب من نواب الشعب في البرلمان البريطاني وجهوا رسالة إلى السفير الإسرائيلي يحذرونه من أن الهدم قد يمثل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي.
إلا أن البدو، وهذا أمر متفهم، يشكون في جدوى هذا الاستعراض الأخير لمشاعر القلق لدى الغربيين، فقد تعودوا على رؤية مظاهر دعم لهم في الغرب ولكنها في العادة لا تعني شيئاً على الإطلاق.
وسجل زيارة القرية حافل بأسماء العظماء والمشاهير من كل حدب وصوب. تشتمل قائمة الزائرين على أسماء شخصيات مرموقة مثل وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط أليستر بيرت، وكذلك سلفه توبياس وود، وزعيم حزب العمال السابق إد ميليباند، ومساعد أمين عام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة الطارئة فاليري آموس، والزعيم السابق للحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا مارتن شولز، ووزير خارجية حكومة الظل في بريطانيا إيميلي ثورنباري، ووزير الخارجية البريطاني السابق وليام هيغ، وغيرهم ممن يشكلون قائمة بما يزيد عن ستين اسماً يحتويها الكتاب.
وكم قدمت تقارير وتليت على مسامع المسؤولين في الأمم المتحدة وداخل البرلمان البريطاني وفي البرلمان الأوروبي وكذلك في السويد والنرويج. وكل ذلك لم يكن له أدنى تأثير على إسرائيل.
إذا ما مضت إسرائيل ونفذت قرار الهدم والإزالة فستكون تلك لحظة فارقة في تاريخ احتلال الضفة الغربية. فخلال العقود القليلة الماضية انتهجت إسرائيل سياسة كانت، في الأغلب، لا تصل إلى النقل (الترانسفير) القسري للسكان.
ما مارسته السلطات بدلاً من ذلك تمثل في تحويل الظروف التي يعيشها الفلسطينيون إلى شيء لا يطاق بحيث ينتهي بهم المطاف إلى أن يرحلوا طواعية. أما الآن، فيبدو أن السلطات تتجه نحو الترحيل القسري: ويعني ذلك في واقع الأمر إحلال مجموعة عرقية محل مجمعة عرقية أخرى باستخدام العنف.
وهذا هو التطهير العرقي.
وهو ما عبرت عنه منظمة بيتسيلم الحقوقية بقولها: "ليس هذا انتهاكاً بسيطاً أو عابراً للقانون الإنساني الدولي، بل هو خرق يرقى إلى جريمة الحرب".
تغير في إجراءات الاحتلال
بعد زيارتنا إلى خان الأحمر عدنا إلى الطريق وتوجهنا نحو مستوطنة كفار أدوميم المجاورة. مررنا بمحلات تجارية صغيرة، وباستديو تصوير وبمدرسة ابتدائية. وعلى النقيض التام مما عليه الحال وما شهدناه في القرية البدوية، يمكن بسهولة العبور من عدة مخارج تتخلل الطريق المحاط بالحواجز المعدنية. يعيش المستوطنون في بيوت منفصلة ومريحة تطل على مشاهد مذهلة تذكرك بما ورد وصفه في الكتاب المقدس.
أوقفنا السيارة على رأس التلة ونظرنا باتجاه الوادي حيث توجد القرية البدوية في قعره.
وسألت نفسي: ما الذي يراه المستوطنون عندما ينظرون إلى أسفل حيث يعيش البدو؟ هل يرون مجرمين؟ أم إرهابيين؟ أم نوعاً من المخلوقات دون البشر يمكن أن يعملوا بهم ما يشاءون من ترحيل وإعادة توطين؟
أخبرني إبراهيم كيف أن بعض المستوطنين في كفار أدوميم وقفوا إلى جانبه، وأنهم كانوا ينزلون في الليل للنوم داخل مخيمه حتى يتسنى لهم المساعدة فيما لو جاءت الجرافات. أثارة وشعور إنساني لا ريب. ولكن المستوطنين في كفار أدوميم هم من تقدموا بعريضة طالبوا فيها بهدم وإزالة مدرسة القرية.
قال لي إبراهيم: "أخشى أن يحدث ذلك نهاية هذا الأسبوع في موسم العطلة بعد رمضان، أيام العيد".
يبدو أنه لا مفر من أن تتعرض هذه المجموعة السكانية إلى الترحيل القسري وبذلك تتحول إلى ضحية أخرى من ضحايا الاحتلال. وستكون تلك خطوة حاسمة باتجاه إقامة تجمع استيطاني ضخم من شأنه أن يفصل شمال الضفة عن جنوبها ويقسمها إلى قسمين.
وسيعني ذلك أن تغيراً سيطرأ على سلوك الاحتلال في الوقت الذي تتحرك فيه إسرائيل باتجاه سياسة الترحيل القسري (الترانسفير) للمجتمعات الفلسطينية الأخرى، وسيصبح بذلك حل الدولتين مجرد حلم ناله التدمير.
غوانتانامو: علامة باقية على الهمجية التي مورست ضد المسلمين الأبرياء