كثر الحديث، في العقود الثلاثة الأخيرة تحديدا، عن راهنية تجديد الخطاب الديني، وارتفعت الأصوات هنا وهناك، تدعو إلى ضرورة الإسراع "بمراجعة جذرية وشاملة وعميقة، للطرق والأساليب والقوالب والصيغ والمناهج، التي تعتمد في مجال تبليغ مبادئ الإسلام وأحكامه وتوجيهاته ومقاصد شريعته إلى الناس كافة".
يختزل أصحاب هذه الأصوات مسألة تجديد الخطاب الديني في نقطتين اثنتين، بانيتان لمطلبين أساسيين اثنين:
المطلب الأول ويرتكز على "مسلمة" أن هذا الخطاب لم يعد يواكب، أو لا يواكب بما فيه الكفاية، ما حملته وسائل الإعلام الجديدة من مزايا كبرى، لم تكن مباحة أو متاحة في زمن الندرة التكنولوجية، حيث كانت "الرسالة" محصورة في المساجد، أو في الحلقيات النقاشية الضيقة، أو من بين ظهراني بعض النوادي النخبوية المغلقة، فكان أثرها محدودا ومفعولها غير ذي وقع كبير بالنفوس والعقول.
أما المطلب الثاني، والمنطلق من مجريات واقع الشأن الجاري، فيلاحظ بأن الصيغ والقوالب والطرق والأساليب التي ركب الخطاب الديني ناصيتها إلى حين عهد قريب، لم تستطع مواكبة "الظاهرة الدينية" في حركيتها وتموجاتها، فلم تفرز، ضمن ما أفرزته، إلا تشددا في الدين، وتقوقعا حول المذهب، وتطرفا في الموقف، وتكفيرا للآخر واستباحة لحرية معتقد الناس، أبناء العقيدة المشتركة كما المنتمين لباقي العقائد على حد سواء.
هذا في سياق المطلبين. أما في أسباب نزولهما، فيبدو أن توالي الأحداث في العالم العربي والإسلامي خلال العقدين الأخيرين، قد عجل بتجسيد المطلبين أعلاه، ووضع المؤسسات القائمة على الشأن الديني، كما الجماعات الدينية المختلفة، وضعها جميعا على المحك:
فأحداث الحادي عشر من شتنبر/أيلول من العام 2001، كان لها تأثير قوي وأثر فعال في إعادة إحياء وتغذية الطروحات المبنية على الربط بين الإسلام والإرهاب، لا بل والمتبنية "لمسلمة" أن الأول هو مصدر الثاني، بالنصوص "القطعية" الصريحة التي لا تحتاج إلى اجتهاد، تقول ذات الطروحات، كما بالتأويلات المحتكمة إلى خلفيات هذا المذهب أو ذاك.
لم يكن المطلوب هنا، من منطوق "نظرية تجفيف منابع الإرهاب"، استئصال ذات النصوص بالجملة والتفصيل، باعتبارها المنبع المغذي "لفكر الإرهاب"، بل أيضا محاصرة الخطاب المحيل عليه، سواء كان ذلك بالمساجد والنوادي، أم اقتنى لغرض بثه وإرساله، وسائل الإعلام واسعة الانتشار.
الخلفية بهذه الحالة كما بتلك، هي العمل إما على ضرب الفكر مباشرة، ما دام هو الأصل في تصور المنطوق أعلاه، أو التدثر بطبيعة الخطاب الرائج لضرب ذات الفكر بجريرته، بطريقة غير مباشرة.
واشتداد عود الحركات التكفيرية، التي تعددت مشاربها وتنوعت غاياتها، وتوسع مجال فعلها واشتغالها، لم يعبر فقط عن استصدار من لدنها للفكر وللخطاب الدينيان، بل استصدر لفائدتها قضايا الفتوى المبتورة من سياقها، أو المحتكمة إلى وقائع في التاريخ حتمتها في حينه ظروف الزمن والمكان.
ولذلك، لاحظنا ولا نزال نلاحظ بأنه بقدر نجاح الحركات إياها في تسويق فكرها المتصلب، ومن بين ظهراني كل وسائل الترويج المتاحة، بقدر تزايد المطالب هنا وهناك بضرورة تجديد الخطاب الديني، إذا لم يكن لذاته وهو في حاجة إليه بكل الأحوال، فعلى الأقل لمواجهته والحد من مفاعيله.
يبدو الأمر هنا كما لو أننا بإزاء رد فعل خالص، يصدر عن صاحبه عفويا وبصورة تلقائية، تماما كما يكون رد فعل من تداهمه المخاطر أو يكون عرضة للاستهداف متقدم المد.
وعلى هذا الأساس، فإن كل المبادرات، الرسمية كما غير الرسمية، التي تبنتها مؤخرا أطروحة تجديد الخطاب الديني (بمصر وبتونس وبالعديد من دول الخليج) إنما أتت في سياق انتشار موجات الخطاب التكفيري، الممتطي لفكر لا أثر من أمامه ولا من خلفه لما يسمى الاختلاف أو الحوار، فما بالك الاجتهاد.
وعلى هذا الأساس أيضا، فإن كل سياسات إعادة هيكلة الحقل الديني (بالمغرب مثلا) إنما نهلت ولا تزال تنهل من نفس المعين، معين محاولات إعادة مركزة هذا الحقل في إطار المؤسسات الرسمية دون غيرها، وتجفيف كل مصادر الفعل المضادة، سواء نبعت من علماء وفقهاء ذاتيين، أم أتت من مستويات أخرى، تتخذ من الدين مجالا للبحث والاشتغال أو دعامة للتوظيف السياسي و لما سواه.
إن تعدد الخطابات الدينية يحول حتما دون سبل "تجميعها" في سلة واحدة على أمل تجديدها، ليس فقط على اعتبار تباين مرجعيتها وطبيعتها، بل أيضا بحكم صعوبة (لدرجة الاستحالة) إيجاد الخيط الناظم الذي سيكون من شأنه إذا لم يكن توحيد منطوقها، فعلى الأقل توفير الحد الأدنى من التواصل لتجسير الفجوة القائمة بينها.
وعلى هذا الأساس، فإننا نجد مثلا أن الخطاب السلفي، المتبني لقراءة معينة للنص الديني، مرتكزة على ما تركه السلف الصالح بالتحديد، يحتكم إلى منظومة معيارية "ترفض كل قيمة عقلية متجددة، وترفض كل قيمة لها جذور غربية"، أو تتطلع للتطور في أفق التجديد بناء على تطور مجريات واقع الحال.
ثم إن لهذا الخطاب بيئته الاجتماعية والسياسية، فنجده يتحرك بالمساجد والأحياء من خلال ناشطين يروجون له عن قرب، تماما كما يروج له الخطباء والدعاة من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية المتاحة. بالتالي، فطبيعة خطاب هؤلاء، كما ملبسهم وآليات مخاطبتهم للناس وطرق نشرهم للدعوة، تميزهم حتما عما سواهم، لا بل وتشي بسمات العقلية الفردية والجماعية التي تطبع وعيهم وسلوكهم في الزمن والمكان.
ما يقال عن الخطاب السلفي، بكل أطيافه ومشاربه، يمكن أن يقال عن باقي الخطابات، إذ كلها رهينة منظومة سميكة، لا يستطيع المرء اختراقها أو التواصل معها، أو توفير القابلية لدى من يتبنونها للتحاور معهم أو مخاطبتهم حتى.
ولذلك، فطالما بقي الأمر كذلك، فإنه من المتعذر حقا تجديد هذا الخطاب أو ذاك، فما بالك ضمان نجاعة تصدي هذا لذاك.