هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تُتّهم إيران بأنّها من المتربّحين من استمرار معاناة الفلسطينيين، ومن المتاجرين بالقضية الفلسطينية. هذا الاتهام ليس جديدًا، لكنّه كان يقتصر على دوائر سلفية –غالبًا- تنظر إلى إيران من الزاوية الطائفية الصرفة فحسب، أو كان جزءًا من دعاية دول عربية ارتبطت علاقتها بإيران -من بعد الثورة الإيرانية- بالتوتر والحساسية الشديدة، إلا أنّ الاتهام أخذ يتوسع بالتدريج، منذ الاحتلال الأمريكي للعراق وصولاً للثورة السورية.
أودّ فقط تناول مشكلة هذا الاتهام، من زاوية الدعاية الرسمية لبعض الدول العربية، والتي يصطف فيها مثقفون وإعلاميون و"رجال دين" –وغيرهم- عن اقتناع أو ارتزاق أو خوفًا ورهبة، لكن تجدر وقفة قصيرة متعلقة بالسلوك الإيراني في المنطقة، ولاسيما في سوريا.
العداء بين نظام الثورة الإيرانية و"إسرائيل" حقيقي، وليس ثمة إمكانية للتوسع في تفسير ذلك الآن، لكن هذا لا ينفي أن لإيران مشروعًا خاصًّا، يقوم على دعائم خاصة بها، دون أن ينفي هذا بدوره إمكانية وجود مشتركات ونقاط التقاء معها، وطالما أنّها ذات مشروع خاصّ، فأيّ شيء يمنعها من توظيف عدائها الحقيقي لـ "إسرائيل"، أو حتى المصطنع، ضمن سياقات ذلك المشروع، أو للتغطية على سلوكها المرفوض قطعًا، أو الملتبس، إن في العراق أو سوريا، أو غيرهما؟
في المقابل هل تربّحت بعض الأنظمة العربية من المعاناة السورية أم لا؟! وهل تتربّح -وإن من جهة معاكسة- من القضية الفلسطينية أم لا؟! ألا توظف بعض الأنظمة العربية، ودعايتها الصفراء، وذبابها الإلكتروني؛ ما تقول إنّه دعم سخيّ قدّمته للقضية الفلسطينية طوال تاريخها؟!
الدول التي تمنّ دعايتها على الفلسطينيين بالدعم المالي، وهي تخوض حربًا في اليمن، هل يمكن أن يؤخذ كلامها بجدّية لو قالت إنّهدف حربها فقط هو تحرير اليمن واليمنيين من الحوثيين، الذين هم يمنيون، ومن النفوذ الإيراني، دون أن يكون لها أي مصالح خاصّة؟!
ولو سلّمنا أن جزءًا من أهدافها عروبيّ متعلق باليمنيين، وتجاوزنا عمّا يبدو في حكم المؤكد من أنها سبق وسمحت للحوثيين بالتمدد لضربهم بالإخوان المسلمين اليمنيين، وتجاوزنا عن المعاناة اليمنية العامّة والكوارث الإنسانية التي تسبّبت بها الحرب، ألا تخوض تلك الدول حربها في بلد آخر دفاعًا عن مصالحها وأمنها القومي، في إطار اعتبارات الدولة القطرية، لا في إطار اعتبارات مشروع عروبي أو إسلامي؟!
أليست اليمن ساحة للصراع مع إيران، صراع وقوده اليمنيون أنفسهم؟ ألم تكن سوريا كذلك أيضًا؟ مع فارق مهم، خاصة في الموضوع السوري، متعلق بجرأة إيران ومبادرتها وقدرتها على الاعتماد على نفسها وأدواتها الذين تمكنت من توظيفهم في مشروعها، وتطوير قدراتهم وكفاءتهم، في مقابل خور تلك الدول المنحنية أسفل السقف الأمريكي!
إن كان الأمر كذلك، وهو أن لإيران مشروعًا خاصًّا، لسنا جزءًا منه، بل نجمت عنه سلوكيات لا نرفضها فحسب، بل نجرّمها ونختلف معها جذريًّا، وفي المقابل لبعض الدول العربية مشاريع قطرية خاصّة ضيقة، نجم عنها تدمير بلاد عربية، ودعم طغاة مجرمين، والتآمر على حركات التحرر وثورات الحرية، والتخلّي عن فلسطين، فهي ليست مشاريع أمّة، ولا مشاريع عروبة ولا إسلام، فلماذا علينا دعمها؟ هل يكفي أن تكون تلك الدول عربية كي ندعمها؟ حتى لو كانت مصالحها ضيقة خاصّة بها، وأثمانها مدمّرة؟
ما هي ميزة تلك الدول في مشاريعها الخاصة على إيران، والتي هي غالبًا حتى، ليست مشاريع وطن قومي، ولا مشاريع دولة حديثة، بل هي مشاريع نظام، أو أسرة حاكمة، أو عائلة صغيرة، أو شخص واحد؟!
إيران في مشروعها الخاص –ومهما كانت أسبابها- تدعم المقاومة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه تتمدد داخل المجتمعات والشعوب العربية، بما ينجم عن ذلك من تمزقات ومآسٍ. هذا صحيح.
في المقابل ماذا تفعل تلك الدول العربية محلّ الحديث سوى أنها تصنع لها أيضًا نفوذًا في البلاد العربية على النحو الذي سبق وصفه؟ بالحرب والدماء واتخاذها ساحة للمواجهة مع إيران، ودعم المجرمين ومحاربة الإصلاحيين، وخلق الثورات المضادّة، ثم بالتخلّي عن القضية الفلسطينية، والمؤامرة على مقاومتها، وتشغيل ذبابها الإلكتروني بالمنّ والأذى واتهام الفلسطينيين ببيع أرضهم، واعتبار أنّ الدعم المالي الذي تُقدّمه للسلطة الفلسطينية، وتُقدّم مثله وأكثر منه للطغاة والمجرمين والمنحطين والمستعمرين؛ يرقى لمستوى الدعم السياسي والدعم بالسلاح والتصدّي الجدّي لأمريكا و"إسرائيل"!
الفكرة هنا أنّه وطالما أنّ المشاريع كلّها خاصّة وضيقة، سواء مشاريع إيران أو بعض الدول العربية، وفي جوانب منها مدمّرة لمصالح بلدان وشعوب عربية أخرى وينجم عنها كوارث إنسانية دامية، وطالما أنّ الجميع يتربّح بقضايا عربية، ومعاناة عربية مفتوحة هنا أو هناك، فليس ثمّة معنى للدعاية التي تتحدث عن المتاجرة بالقضية الفلسطينية، أو التربّح من استمرار معاناة الفلسطينيين، ولا يملك أحدٌ شرطًا يلزم به غيره للانسياق في مشروعه الخاصّ والضيق.
إنّ الشعار المرفوع صراحة في دعاية بعض البلاد العربية، وما يردّده ذبابها الإلكتروني طوال الوقت هو، بلدي أولاً، ومصلحتنا أولاً.
ضمن هذا الواقع البائس، يمكن لكل مستضعف أن يتلمّس النوافذ التي تبقيه على قيد الحياة، لا عن تطابق مع هذه الدولة أو تلك، بل عن ضرورة والتزام مصلحة أملاها ضيق الواقع وضعف ممكناته. فلا ينبغي أن يلوم المستضعفون أنفسهم في وقائع كهذه، وإلا لاندرج الجميع في مشاريع ومصالح ودعايات تلك الدول التي تتربّح وتتاجر بالجميع!
لكن هل بالفعل لا تتربّح تلك الدول من فلسطين؟ أو ليست تتحمل قسطًا من المسؤولية عن استمرار معاناة أهلها؟
الإجابة على هذا السؤال كبيرة، لكن فلتكن مجرد الإشارة الآن، بجملتين فقط.
الأولى- أن تلك الدول، تتقرب إلى الولايات المتحدة من خلال فلسطين، تدفع الثمن من كيس القضية الفلسطينية، وهذه مأساة تاريخية، الأمثلة عليها لا يمكن حصرها. لكن فلنبق في المثل الراهن، وهو تحالف المصالح بين تلك الدول، وبين الرئيس الأمريكي الذي اعترف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل"، إن إرضاء هذا الرئيس وإنجاحه ودعمه أهم عند تلك الدول من القدس وأهلها، حتى لو كانت القدس هي الثمن.. السبب مصالحهم الخاصة، مصالح الحكم الداخلية، ومصالح الصراع مع إيران.
الثانية- إنّ قول هؤلاء بأن إيران تتربّح من استمرار معاناة الفلسطينيين، يعني بالنسبة لهم، أن السبيل الوحيد لإنهاء معاناة الفلسطينيين، ومنع إيران من التربّح من معاناتهم، هو تخلّي الفلسطينيين عن قضيتهم، ولذلك لا غرابة أن اعتبر أحدهم أن قضية القدس هامشية بالنسبة للصراع مع إيران.
السؤال لماذا لا يكون إنهاء معاناة الفلسطينيين عن طريق آخر غير بيع فلسطين، لماذا لا يكون عن طريق دعم جهاد أهلها ومقاومتهم، والتصدّي الجدّي للإمبريالية الأمريكية؟ لماذا لا تقطعوا الطريق على إيران بدعم مقاومة الفلسطينيين؟ طالما أن إيران ما تزال متفوقة عليكم في سياساتها، وما تزال طريقتها في التربّح من معاناة الفلسطينيين ناجحة ومفيدة، فافعلوا مثلها إذن، لأجلكم أنتم لا لأجل فلسطين وأهلها!