هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أتت انتفاضة القدس لكي تحيي في النفوس والمشاعر معركة الأمة ضد التطبيع، كما أحيت الغضب ضد الصلف الأمريكي والاستخفاف بمشاعر العرب والمسلمين وتحويلها إلى مجرد لعبة صغيرة في حسابات داخلية، سواء في أمريكا أو إسرائيل، وهذا من الهوان الذي وصلت إليه حال الأمة ومدى الاستهانة بقدراتها وإرادتها وغضبها، كما حركت انتفاضة القدس الشارع العربي والإسلامي من جديد، والمشاهد التي تنقلها شاشات التليفزيونات من مختلف أنحاء العالم مذهلة بالفعل، حتى في أفغانستان المكلومة بالانقسام والحرب الأهلية تخرج المظاهرات، حتى في غوطة دمشق المحررة والمحاصرة من قوات نظام بشار ويموت الأطفال فيها جوعا أو لعدم وجود الدواء، يخرج أحرارها المحاصرون في مسيرات رمزية نصرة للقدس، فضلا عن خروج الغضب من أماكن مفاجئة، مثل الجامعة الأمريكية في القاهرة، وبيروت الحرة العربية وليست بيروت الضاحية الجنوبية، المحتلة من ميليشيات إيران والمتاجرة بقضية فلسطين وبالمقاومة.
الانتفاضة أذابت خلافات عديدة بين العرب
والمسلمين، إنها القضية الوحيدة التي اجتمعوا عليها تقريبا هذا العام، القضية الفريدة
التي وحدتهم، وأخرجتهم صوتا واحدا وموقفا واحدا، وهذا ما ينبغي أن يكون دائما، فهناك
من القضايا المصيرية للأمة ما ينبغي أن ننزهها عن أي خلاف، ولا يليق أن نتخذها سيفا
أو رمحا يطعن به بعضنا بعضا، ومن يفعل ذلك يضر بالقضية بالفعل، ويضعف الإجماع العربي
والإسلامي حولها، هذه قضية فوق القضايا، هذه قضية فوق الخلاف، هذه قضية فوق الانقسام
العربي المزمن.
الموقف من التطبيع متباين بطبيعة الحال،
من دولة إلى أخرى، ومن نظام سياسي إلى آخر، وهذا ما ينبغي أن يوضع في الاعتبار، ولا
يجوز أن نحقر أي موقف ضد التطبيع، حتى لو كان ضعيفا، وإنكار المنكر مشروع حتى بالقلب
إن لم يستطع الإنسان أن ينكره بلسانه أو بيده، ولذلك لم يكن لائقا ولا منصفا ولا إيجابيا
أن يسخر بعضهم من "انتفاضة التويتر أو الفيسبوك"، فمن عجز عن النزول إلى
الشارع فلن يعجز عن أن يسجل موقفه في صفحته أو في تعليقه، المهم أن يسجل موقفه، أن
يشارك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، المهم أن يكون الرأي واحدا، والرفض واحدا، والقول
واحدا، والضمير واحدا، فإذا كنا عاجزين ـ عمليا ـ عن تحرير القدس في تلك الأيام والأزمان،
فلا نكون عاجزين عن إبقاء قضيتها حية، وأن ندافع عنها ونحاصر العدو في كل مكان وكل
منبر وكل ساحة تعبير وكل منصة دولية أو إقليمية.
أيضا، لا ينبغي أن نقع أسرى لتسريبات الإعلام
الصهيوني، الذي لا يترك فرصة يومية إلا ويشيع أن هذه الدولة تتواصل معنا، وذلك النظام
يتعاون معنا، وتلك الحكومة تنسق معنا، وهي حالة غريبة، كأنها تستدعي "الفضيحة"،
وهذا جيد للغاية، وتعني أن "الكيان" نفسه يدرك أن التطبيع عار وفضيحة يتهرب
الجميع من أن يوصم به، هذا مكسب كبير حتى الآن للمعركة ضد التطبيع، لكن من الواضح أن
"الكيان" يستخدم تلك التسريبات من أجل إضعاف روح المقاومة للتطبيع لدى الشعوب،
وإشعارها بأنه لا داعي للمقاومة، ولا معنى للمقاطعة، فالجميع معنا من تحت الطاولة،
وقد يكون في بعض ما يقولونه صحة، لكن أغلبه ـ بالتأكيد ـ أكاذيب واختلاقات لضرب الروح
المعنوية، وضرب العرب بعضهم ببعض.
حتى من يلعب مع الصهاينة من تحت الطاولة،
أو في الغرف المظلمة، دعوه هناك، ولا تشجعوه على الإعلان بذلك، فمن مصلحة المعركة ضد
التطبيع أن نشجع كل نفي وأن ننفي أي تهمة بلا دليل قطعي أو إعلان رسمي، وهو غير موجود،
باستثناء مصر والأردن، لا يصح أن يكون فرحنا بإثبات التطبيع أكبر من فرحنا بنفيه أو
إنكاره، هذا خطير، ومراهقة سياسية، أو توظيف غير عاقل وربما غير نبيل للمقاومة في صراعات
سياسية ليست قضية فلسطين طرفا فيها، لا يصح أن يكون الاتهام بالتطبيع حالة تراشق وسباب
بين الدول أو بين الشعوب، هذا يضر بقضية القدس ويضر بمعركتنا ضد التطبيع.
مقاومة التطبيع، والنضال من أجل القدس وفلسطين ينبغي أن يتجاوز مراحل المراهقة السياسية، والعواطف المجردة وقليلة الخبرة، إلى مرحلة النضج السياسي والقدرة على التمييز والصبر وطول البال وطول النفس، فأنجح المعارك هي تلك التي تمتزج فيها العاطفة الصادقة مع العقل الناضج مع الضمير الحي دائما.
المصريون المصرية