في البداية كان فرع بنك باركليز في منطقة كيلبيرن في لندن في عام 2008، ثم جاءت قصة بنك إتش إس بي سي فرع كيركلوود في لندن في صيف 2013، ثم بعد ذلك بوقت قصير في مطلع عام 2015 حضرت حكاية البنك العربي الإسلامي في الأردن في فرعين أحدهما في عمان والآخر في مادبا.
جميع هذه البنوك تصرفت بنفس الطريقة حينما قررت فجأة ودون سابق إنذار إغلاق حساباتي لديها وحرماني من الاستفادة من خدماتها. كان لدي حسابان في بنك باركليز، أحدهما شخصي باسمي والآخر باسم معهد الفكر السياسي الإسلامي الذي كنت أديره منذ عام 1998 وحتى ذلك الوقت. وأما بنك إتش إس بي سي فكان لي فيه حساب مشترك باسمي واسم زوجتي. أما بالنسبة للبنك العربي الإسلامي، فكان لدي حساب تجاري لشركتي العاملة في الأردن في عمان وحساب شخصي مشترك لي ولزوجتي في مدينة مادبا. في الحالات الثلاث، لم تقدم البنوك أي تفسير لإجراءاتها، وكل ما ورد منها هو نصيحة مقتضبة على شكل تعليمات: "خذ نقودك وأودعها في بنك آخر، ولا يخطرن ببالك بعد الآن أن تفتح حسابا معنا." ليس هذا فحسب، بل قيل لي بأن قرار إغلاق الحساب لا يقبل الطعن، ولا يجدي نفعا محاولة شيء من ذلك.
بدأت أشك في أن الأمر جلل، وأنه لم يكن من باب المصادفة، وعزز من شكوكي أن فتاة تعمل في البنك العربي الإسلامي فرع مادبا ذكرت لي عن غير قصد بأنهم يتحدثون في البنك عن أن اسمي ورد في قائمة ما، ولم تكن لديها معلومات إضافية، وإن كانت كما بدا لي راغبة في المساعدة لو استطاعت. تركتها وعدت أدراجي إلى مدير الفرع وسألته: "ما هي هذه القائمة التي أدرج اسمي فيها؟ ولماذا قررتم إغلاق حسابي؟ وماذا جنيت حتى أستحق ذلك؟" خاطبني الرجل بلطف وأدب جم، وقال: "يا دكتور عزام، أنا أعرفك وأتابعك وأكن لك كل الاحترام، لكني أنصحك بأن تأخذ فلوسك وتودعها في أي بنك آخر. هذه أوامر جاءتنا من جهات عليا في البنك، ولا توجد لدي معلومات لأجيبك على أسئلتك".
مقارنة بسلوك البنوك البريطانية كان تعامل الموظفين في فرع مادبا من البنك العربي الإسلامي لطيفا وإنسانيا نوعا ما. فبالمقارنة، كل ما وصلني من بنك باركليز، وبعد ذلك بسنوات من بنك إتش إس بي سي، كان ورقة تعلمني بقرار إغلاق حسابي وتمهلني أسابيع قليلة للبحث عن بنك آخر أودع فيها نقودي، وإذا لم أفعل خلال تلك المدة فسيغلق الحساب في الموعد المنصوص عليه وسيرسلون إلي بشيك بما لي عندهم من مال.
لا أخفي أنني انتابني شعور بالاكتئاب بسبب هذا الإقصاء، بل والحرمان من خدمة باتت في يومنا هذا، وخاصة في الغرب، لا استغناء عنها لأحد إطلاقاً. فجل المعاملات الرسمية لا تتم بلا حساب بنكي. سادت عائلتي حينها حالة من القلق، وذهبت زوجتي تمطرني بوابل من الأسئلة التي لم أكن مستعداً للإجابة عنها: ماذا يعني إغلاق الحسابات؟ ماذا وراءه؟ وكيف سندفع ما علينا من فواتير؟ وكيف سنشتري تذاكر السفر؟ وماذا سيحدث لبطاقات الاعتماد التي بحوزتنا؟ وهل سيقبل بنك آخر بفتح حساب لنا؟
في البداية شككت بأن الحكومة البريطانية ربما كانت وراء هذا الإجراء، ولعل سبب ذلك هو مواقفي تجاه فلسطين ومعارضتي للحرب على العراق، وخاصة أنني كنت من الشخصيات البارزة في حركة مناهضة الحرب. ولكنني ما لبثت أن صرفت النظر عن ذلك، واستبعدت أن تكون الحكومة مسؤولة عما جرى، فلئن كانت علاقاتي بطوني بلير ووزرائه سيئة، إلا أن علاقاتي بكثيرين غيرهم في المنظومة السياسية جيدة، وكانت لي علاقات جيدة بالذات مع أجهزة الأمن التي كثيرا ما كانت تستشيرني في قضايا الشرق الأوسط والتأثير المحتمل للتطورات الجارية هناك على بريطانيا وعلى أوروبا. بل لقد كنت الشخص الذي تواصلت معه هذه الأجهزة للتنسيق مع الرابطة الإسلامية في بريطانيا في العملية التي تم من خلالها استعادة مسجد فينسبري بارك وتحريره من سيطرة البلطجية أتباع أبو حمزة المصري الذين استولوا عليه من الجالية المحلية وحولوه إلى وكر لأشخاص طالما اشتبهت السلطات بعلاقات بعضهم بتنظيم القاعدة.
ظلت مشكلتي مع البنوك يكتنفها الغموض إلى أن تواصل معي الصحفي نمير شبيبي الذي يعمل في مؤسسة إعلامية اسمها فايس نيوز، والذي كان يجري تحقيقاً في مؤسسة اسمها وورلد تشيك، اشترتها مؤخراً وكالة تومسون رويترز. تقوم وورلد تشيك بتزويد البنوك وكثير من المؤسسات العالمية المتنفذة بقائمة طويلة، تتجدد كل حين، تحتوي على أسماء أشخاص ومؤسسات يشك في أن لها ارتباطات بالتطرف والإرهاب. أخبرني نمير شبيبي بأن اسمي موجود ضمن تلك القائمة.ولعل ذلك هو السبب في اتخاذ البنوك المذكورة آنفا قرارا بإغلاق حساباتي فيها.
اقترح علي نمير شبيبي الاتصال مباشرة بوكالة تومسون رويترز لأستفسر منهم ما إذا كان اسمي على القائمة. فعلت ذلك، فجاءني الجواب في نفس اليوم بالنفي.
كنت قد بدأت في ذلك الوقت التواصل مع مؤسسة آي تي إن القانونية في لندن، الذين اقترحوا أن أعيد التواصل مع تومسون رويترز لأسألهم إن كانوا متأكدين من أن اسمي ليس في قائمة وورلد تشيك. عدت وأرسلت رسالة إليهم، فردت علي في نفس اليوم نفس السيدة واسمها ديبوراكيمب في رسالة مؤرخة في الثالث والعشرين من فبراير / شباط 2016، جاء فيها: "أولاً، أود أن أعتذر عن الخطأ الذي ارتكبته، لأنني بعد البحث وإعادة النظر يمكنني التأكيد بأنه كان لدينا ملف باسمك وبنفس تاريخ ميلادك، إلا أننا فيما بعد حذفناه بعد أن قمنا بعمليات بحث روتينية لتجديد البيانات المتوفرة لدينا في قاعدة بيانات وورلد تشيك. وبإمكاني الآن التأكيد على أننا حذفنا الملف الخاص بكم بتاريخ 18 فبراير/ شباط 2016."
وذلك يعني أن الملف إنما حذف خلال نفس ذلك الأسبوع الذي تواصلت فيه معهم. ويبدو لي أن الحذف جاء بعد أن شعر مسؤولو تومسون رويترز بأن ثمة تحقيقا يجري.
تبين فيما بعد أن وورلد تشيك التابعة لوكالة تومسون رويترز كانت تحتفظ بملف خاص بي منذ عام 2003 تقريباً، كما علمت من بعد أن معظم المؤسسات المصرفية في العالم تستفيد من هذه الخدمة بما في ذلك بنك باركليز، وبنك إتش إس بي سي وعلى الأغلب البنك العربي الإسلامي.
احتاجت تومسون رويترز عاماً كاملاً تقريباً حتى توافق على تسوية خارج المحكمة مع مؤسسة آي تي إن للقانون التي تمثلني. وكنت قد قلت للمحامي المكلف بالقضية منذ البداية إن التعويض المالي لا يهمني بقدر ما يهمني اعتراف تومسون رويترز بارتكاب هذه الخطيئة بحقي وكذلك الاعتذار العلني عما بدا منهم.فأنا إنما أريد أن أستخدم اعترافهم واعتذارهم في الضغط باتجاه إلغاء هذه الخدمة المسيئة والتي من المؤكد أن المئات إن لم يكن الآلاف من الناس قد وقعوا ضحية لها.
إن مشروع وورلد تشيك مصدر خزي وعار لوكالة تومسون رويترز ذات السمعة العالمية، وما كان يحسن بها أن تورط نفسها في مثل هذا العمل الدنيء، وخاصة أن قواعد البيانات التي يزود بها عملاء تومسون رويترز تعتمد على معلومات تؤخذ من مواقع لا مصداقية لها ومعظمها يقوم عليها أفراد من تيار اليمين المتطرف ومن الكارهين للإسلام والمسلمين. ومن المخزي فعلاً أن وورلد تشيك لم تعبأ في يوم من الأيام بتمحيص المعلومات التي تردها ولم تكلف نفسها عناء التحقق من صحتها.
أشعر بالارتياح ولله الحمد أنني حصلت على صك براءة من التهمة التي لفقتها لي وكالة تومسون رويترز، ولكني لن يسرني أقل من الإغلاق التام لخدمة وورلد تشيك التابعة لها، حيث أن استمرارها يعني أن كثيراً من الناس حول العالم سيظلون عرضة للتهم المغرضة ولتشويه سمعتهم وإغلاق حساباتهم وحرمانهم من كثير من الفرص، مما يسبب لهم الاكتئاب ويعود عليهم بكثير من الضرر المادي والمعنوي.
1
شارك
التعليقات (1)
ناصح قومه
الخميس، 19-10-201705:53 ص
بسيطة يا عزام؛ مزحة من ولد فاطمة الكتبي و و لد دحلان.