قضايا وآراء

استفتاءان بسياقين مختلفين

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
لم تكن المدّةُ الفاصلة بين استفتاء إقليم " كردستان" العراقي 25 سبتمبر2017 ، وإقليم " كتالونيا الإسباني  01 أكتوبر 2017  ، سوى أسبوع واحد، فالحدثان وإن حصلا في موقعين جغرافيين مختلفين، أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، فقد توحّدا في الهدف والمقصد: الانفصال عن الدولة المركزية والسعي إلى تأسيس دولة مستقلة، ومن باب التشابه بين الحالتين أن الإقليمين معاً ينتميان إلى إطارين دستوريين متقاربتين، الفيدرالية في الوضع العراقي، ومناطق الحكم الذاتي في إسبانيا، وسواء تعلق الأمر بدستور العراق الدائم لعام 2005، أو الدستور الديمقراطي الإسباني لسنة 1978، فإن الاستفتاء من أجل الانفصال محظور بأحكام الدستور، والدعوة إليه مساس بالوحدة الوطنية، ومع ذلك انتظم التصويت في كردستان ونال حظه من القبول بقرابة 93 في المائة من نسبة المشاركين، وكان نصيب الموافقين على الانفصال في كتالونيا حوالي تسعين في المائة من المشاركين، على الرغم من تدخل الأمن المركزي الإسباني، وإغلاق قرابة نصف مكاتب التصويت، ناهيك عن الأضرار التي أصابت مواطني الإقليم نتيجة المواجهة مع قوات الأمن.

فبغض النظر عن التطور الذي ستشهده نتائج الاستفتاء في الإقليمين، سواء في صلتها بالدولة المركزية أولا، أو في علاقتها بالقوى الإقليمية والدولية، فإن العمليتين نُفذّتها فعلا بعد سنوات من التردد، ومن أولى نتائجهما إعادة موقعة الإقليمين في شبكة العلاقات الناظِمة للدولة المركزية مع وحداتها الإقليمية. فليس صدفة أن عبر حاكم كتالونيا مباشرة بعد التصويت بقوله " سيُسمع الاستفتاء صوتنا، وسيُلفت الأنظار إلى قضيتنا ومطالبنا". وفي العراق يبدو أن " مسعود البرازاني" وحزبه، والمناصرين له، وعوا دقة الظرفية التي تعيشها العراق، واستغلوا التوقيت للدفع في اتجاه تنظيم الاستفتاء دون رجعة، وهم مدركون بأن نتيجته المعروفة مسبقا، محفوفة بمخاطر من طبيعة داخلية   صراعات أحزاب كردستان وتناحرها من أجل السلطة والمال  ، و جهوية ودولية    رفض دول الجوار الاستفتاء، واعتراض القوى الكبرى عليه وعلى توقيته.

يختلف سياق استفتاء اقليم كردستان عن نظيره الكتالوني من حيث حال المنادين به، ونوعية الرهانات الناظِمة له، وطبيعة الجيواستراتيجية المتحكمة فيه، والردود الجهوية والدولية المحتملة حُياله، والمدى الذي قد يصل إليه. فبينما تخترق إقليم كردستان بمحافظاته الثلاث  دهوك وأربيل والسليماني   توترات بين التنظيمات والأحزاب الفاعلة في مجاله السياسي، وتشُقُّه حساسيات عرقية وثنية ظاهِرةً ومستترةً، يتميز إقليم كتالونيا بقدر عال من الانسجام والوحدة، كما تدعمه نزعة مرتفعة داعِية إلى الانفصال عن الدولة المركزية وإنشاء كيان جديد مستقل بذاته. ومن زاوية أخرى، يقع إقليم كردستان داخل جيو استراتيجية بالغة التعقيد والحساسية، وهو ما يوجد في حالة نظيره الكتالوني. فالأكراد أو الكورد موجودون في العراق وسوريا وتركيا، ولإقليم كردستان حدود مع هذه الدول مجتمعة، بالإضافة إلى إيران، وكلها ترفض جملة وتفصيلا السماح للأكراد بتأسيس كيان خاص بهم، لأن ذلك إن تحقق سيُذكي نزعةَ الإستقلال في المنطقة برمتها، وهو ما لا تسمح به جيواستراتيجية المنطقة، خلافا للكتالونيين، الذين ليست لهم مثل هذه الحدود، وتواجههم فقط معارضة الدولة المركزية، والالتزامات التي في ذمة الاتحاد الأوروبي تجاه اسبانيا الموحدة. ومن هنا يمكن فهم ردود فعل العالم برمته باستثناء إسرائيل حُيال استفتاء كردستان، ومن هنا أيضا يظهر الفرق مع ردود الفعل التي أعقبت استفتاء كتالونيا. لذلك، لا يبدو في تقديرنا نجاح استفتاء كردستان وقدرته على الذهاب على الأقل في الزمن المنظور إلى تأسيس دولة كردية مستقلة وقائمة الذات، وربما حتى في صيغة ما حصل لنظيراتها في مناطق متفرقة في العالم ، من قبيل :سلوفاكيا، كوسوفو، أو تيمور الشرقية وجنوب السودان. و بالموازاة، إذا كان الأفق غير واضح بما فيه الكفاية بالنسبة لإمكانية إنشاء دولة مستقلة في إقليم كتالونيا، فإن دينامية الاستفتاء في هذه الحالة بالذات ستفتح آفاق سياسية جديدة، بعد الفصل في الإشكاليات الدستورية والقانونية ذات الصلة بإمكانية الاستفتاء نفسها،ومن اليقين أن الإسبان، ومن ورائهم الأوروبيين، سيُديرون أزمة الانفصال، بأقل الخسائر التي قد تحصل في العراق عموماً ، وفي إقليم كردستان تحديداً.

وفي الحالتين معاً هناك سؤال جوهري يُطرح على الاستفتاءين معا اختلاف سياقهما، يتعلق بالدوافع العميقة إلى الدعوة إلى الخروج عن الدولة المركزية، والسعي إلى إنشاء كيانات جديدة، علماً أن تجربة المناطق المستقلة، والجهوية الموسعة في إسبانيا أهم ما ميز الدستور الديمقراطي لعام 1978، وطبع الإنتقال الديمقراطي الناجح في هذا البلد، كما أن العراق، وإن بدرجة مختلفة، قطع خطوات كبيرة وجريئة في اتجاه الاعتراف للكورد أو الأكراد بما يتميزون به عن عيرهم في المجال اللغوي والثقافي، وأمدهم أيضا بأشكال متقدمة تُسعفهم في التعبير عن هذه التمايزات، بما فيها الحكم الذاتي الموسع والفيدرالية، التي هي كونفدرالية أكثر منها فيدرالية في دستور 2005؟. 

لا شك أن الإجابة عن هذا التساؤل تختلف في الحالة العراقية عن نظيرتها الإسبانية، ومرة أخرى بحكم اختلاق السياق العام. ففي إقليم كردستان يبدو أن اختيار الانفصال عن العراق، وبالذات في هذا التوقيف، ليس قراراً كردياً جماعياً ومطلقاً، بل هو اختيار غير منفصل عن المشاهد التي يُراد للمنطقة ككل أن تسير على هديها، وقد ساعدت على ذلك توسع شهية مسعود البرازاني وحزبه وأنصاره، أما في إسبانيا فيبدو أن الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت بقوة اسبانيا منذ العام 2008، عمقت وعي سكان كتالونيا أهمية الإنطواء على إقليمهم، لأن الكعكة لم تعد صالحة للقسمة على كل الإسبان، أو تحديدا ، كما يقولون، على مدريد.
0
التعليقات (0)