الاتفاق النووي الذي وقعته مجموعة "5+1" الدولية مع إيران في يوليو 2015 على موعد مع قرار قد يكون مصيريا في 15 تشرين الأول/أكتوبر المقبل، من المقرر أن يرفع فيه الرئيس ترامب تقريرا حول إن كان يعتبر طهران ملتزمة بتعهداتها الواردة في الاتفاق أم لا. حيث تقرر قبل بدء تنفيذ الاتفاق النووي في فبراير 2016، أن يقدم الرئيس الأمريكي كل 3 أشهر، تقريرا بشأن ذلك للكونغرس.
ما يزيد من أهمية هذا اليوم، هو ارتفاع مؤشرات ترجّح اعتزام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترجمة وعده الانتخابي في المرحلة القربية المقبلة بشأن الاتفاق النووي مع إيران في هذا التاريخ.
خطاب ترامب المشحون بالعداء للاتفاق النووي أمام الجمعة العامة للأمم المتحدة في التاسع عشر من أيلول الماضي، ووصفه إياه بـ "العار" و"المحرج" لبلده، و"من أسوء الاتفاقيات" لم يكن أمرا جديدا، فالرجل قبل وبعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة، اعتاد على استخدام مثل تلك الألفاظ والعبارات، لكن الجديد في ذلك، أن تلك التوصيفات جاءت هذه المرة في سياق اعتماده لهجة أكثر تشددا حيال نظام الحكم الإيراني.
الأشهر التسع الماضية أثبتت أن هذه الأوصاف، لم تسندها أفعال تترجم العداء المكنون، فلا يمكن الاعتماد عليها وحدها لاستشراف طبيعة قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الخامس عشر من أكتوبر القادم بشأن مستقبل الاتفاق النووي مع طهران، إن كان يمدد العمل بالاتفاق أو يلغيه، وخاصة بعد تأكيده التزام طهران بالاتفاق مرتين في تقريرين منفصلين أرسلتهما إدارة ترامب إلى الكونغرس منذ توليه الرئاسة.
أما أهم ما يمكن البناء عليه، هو ما كشف عنه دونالد ترامب في رده على اسئلة الصحفيين في الأمم المتحدة، بشأن قراره النهائي حول الاتفاق النووي مع إيران بعد اللقاء بالرئيس الفلسطيني في نيويورك، حيث قال إنه "توصل لقرار"، دون أن يفصح عن فحوا هذا القرار.
كما أكد ذلك مستشار الأمن القومي الأمريكي، الجنرال هربرت ماكماستر المتراجع عن تحفظاته السابقه على تمزيق الاتفاق النووي، بالقول إن الرئيس دونالد ترامب قد اتخذ قراره بشأن هذا الاتفاق بعد مشاورات مستفيضة مع فريقه الحكومي المصغر.
جاء التلويح بقرار جديد حول هذا الاتفاق، بعيد أول خطاب للرئيس دونالد ترامب في الدورة 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي كان الأكثر تصعيدا إلى الآن ضد إيران، كأنه أراد من خلال ذلك التسويق مبكرا لقراره المحتمل في أوسع اجتماع رسمي عالمي قبل إصداره.
الحديث عن وجود قرار أمريكي جاهز بشأن هذا الاتفاق الدولي في ظل إجراءات أمريكية تبدو أنها كانت تستهدف إلى التوصل إلى ذلك، مثل قيام الرئيس الأمريكي قبل شهرين تقريبا بإخراج ملف متابعة الاتفاق النووي من الخارجية الأمريكية، وتكليفه فريقا خاصا من أعضاء مكتب الأمن القومي، ومستشاريه بذلك، أملا أن يقدم هذا الفريق تقارير مختلفة عما كانت تقدمها الخارجية الأمريكية سابقا، يطرح تساؤلات عن طبيعة هذا القرار المحتمل.
نفهم من تلميحات ترامب، أنه على الأغلب لا يريد هذه المرة تأكيد عمل طهران بالتزاماتها حسب الاتفاق النووي في التقرير المزمع إرساله إلى الكونغرس بعد أسبوعين، وذلك على الرغم من تأكيدات المنظمة الدولية للطاقة الذرية في تقاريرها الدورية على ذلك، آخرها كان في مطلع هذا الشهر.
حال رفضت الإدارة الأمريكية تأكيد التزام إيران بالاتفاق النووي هذه المرة، على الأغلب ستعلن أن الاتفاق النووي لا يحقق المصالح الأمريكية، حينئذ إما أن تعلن رسميا ونهائيا الانسحاب من الاتفاق النووي، أو تترك الملف للكونغرس دون الانسحاب، بحيث توظف ذلك كأداة ضغط على إيران وبقية شركاء الاتفاق للدفع بإجراء تعديلات على الاتفاق.
في كلتي الحالتين، ما لم يشهد ترامب بحلول 15 من شهر تشرين الأول/أكتوبر بأن إيران تلتزم بالاتفاق، فسيكون أمام الكونغرس الأميركي 60 يوما لاعادة فرض العقوبات التي رفعت بموجب الاتفاق.
إلى الآن ليس واضحا إن كان القرار الذي يتحدث عنه دونالد ترامب هو قرار المؤسسة الأمريكية أو قرار فردي له ومقربيه، خاصة في ظل الخلاف الذي عاد للسطح مجددا بين الرئيس الأمريكي والقيادة العسكرية بهذا الشأن، بعد تصريحات مفاجئة لرئيس هئية الأركان الأمريكية الجنرال دانفورد أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، أكد فيها أن طهران مازالت ملتزمة بالاتفاق النووي، وتحذيره من خروج بلده من الاتفاق.
إلى جانب هذا الكابح الداخلي، ثمة عراقيل خارجية أيضا تعترض سياسة ترامب هذه، على رأسها تأتي المعارضة الأوروبية والروسية والصينية مع اختلاف درجات تلك المعارضة بين هذه الدولة أو تلك.
دوافع هذه الدول في معارضة التوجه الأمريكي نحو الانسحاب من الاتفاقية النووية، ليس جلها اقتصادية، فحجم التبادل التجاري بين إيران والدول الأوربية الثلاث الشريكة في الاتفاق النووي، لم يصل بعد إلى رقم معتبر يؤسس لمصالح استراتيجية بينهم، فعلى سبيل المثال لا يمكن الربط بين موقف بريطانيا المعارض في هذا الصدد بحجم مبادلاتها التجارية مع طهران، والتي لا يتجاوز 200 مليون دلار.
إنما قلق هذه الدول أن أي خطوة تنهي الاتفاق النووي، سوف تعرض الأمن والسلم الدوليين لمخاطر محيقة، وتعيد انتاج سيناريو كوريا الشمالية في منطقة الشرق الأوسط التي تجتاحها أزمات مركبة هذه الأيام، حيث أن سلوك الولايات المتحدة في التعامل مع بيونغ يانغ بعد توقيع اتفاقيتين نوويتين معها في عامي 1994 و2007، لم يُفشل الاتفاقين فحسب، بل أدى إلى تعنت غير مسبوق لكوريا الشمالية، نشاهد فصوله الأكثر تشددا هذه الأيام بعد تصاعد وتيرة تجاربها النووية والصاروخية البالستية.
كما أن ذلك من شأنه، أن يغلق باب الحلول السلمية للقضايا الدولية، تشكّل الولايات المتحدة طرفا فيها، لأضرار بالغة سلتحق بصدقيتها، وسوف يفشل أيضا محاولاتها الرامية إلى جرّ بيونغ يانغ إلى طاولة الحوار بعد العجز في إجبارها على وقف التجارب الصاروخية والنووية.
في ظل المعارضة الداخلية، أي الموقف الرافض للقيادة العسكرية الأمريكية، وكذلك المعارضة الخارجية وخاصة الأوروبية، ليس مستبعدا أن تؤكد الإدارة الأمريكية مرة أخرى التزام إيران بالاتفاق النووي في أكتوبر، أما إذا لم تفعل ذلك، قد لا تعلن الانسحاب فورا، وإنما تسلك مسارا أهون منه، أي المطالبة بتعديل الاتفاق تحت طائلة الضغط الناتج عن عدم المصادقة على التزام طهران بتعهداتها.
هنا على الأغلب سوف توظف الإدارة الأمريكية فترة 60 يوما للضغط على الجانب الإيراني، سواء لدفعه نحو القيام بما يمثل انتهاكا واضحا للاتفاق، يتخذه واشنطن ذريعة لتمزيقه، أو حمله على سلك مسار تعديلي للاتفاق، بحيث يتضمن قضايا أخرى.
ولعل تأكيد السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هيلي أن خطاب الرئيس الأمريكي لا يعني وجود نية لديه لإلغاء الاتفاق النووي مع طهران، يرجح سيناريو عدم الانسحاب فورا من الاتفاق النووي إذا ما رفض تأكيد التزام إيران بتعهداتها النووية في التقرير القادم إلى الكونغرس.
هنا موقف فرنسا حول إجراء تعديلات على الاتفاق، وعلى الرغم من رفضها الشديد لإلغائه، يتوافق مع موقف الإدارة الأمريكية إلى حد ما، إذ أكد الرئيس الفرنسي ايمانوئل ماكرون خلال خطابه في الأمم المتحدة، أنه من الضروري إجراء تعديلات على الاتفاق، أحدها بتحسين التحكم في الأنشطة البالستية التي لا يغطيها الاتفاق، وذلك بعد اعتباره الانسحاب من الاتفاق خطأ جسيما.
أما فيما يخص الموقف الإيراني، يستبعد جدا قبوله بأي تعديل على الاتفاق النووي، لكن قد تقبل طهران بمفاوضات مع الأوروبيين بشكل منفصل عن هذا الاتفاق، حول القضايا الأخرى باستثناء البرنامج الصاروخي الذي تعتبره الدولة الإيرانية خطا أحمر، لإحراج الولايات المتحدة الأمريكية ودفع شركاء الاتفاق الأوروبيين إلى رفض التجاوب مع عودة العقوبات حال قررت واشنطن الانسحاب من الاتفاق.
هذا إذا لم تقرر طهران أيضا الانسحاب من الاتفاق في مواجهة الانسحاب الأمريكي، كما يهدد بذلك مسؤولون إيرانيون، أما اذا انسحبت إيران، يبقى احتمال التجاوب الأوروبي مع عودة العقوبات الأمريكية واردا، وخاصة في ظل تشابك المصالح الاقتصادية والتجارية بينهم وبين الأمريكان، كما أنه حينئذ لا يوجد ما يمنع الأوروبيين البقاء في اتفاق، خرج منها طرفاه الأساسيان. أما إذا ما انتظرت طهران جلاء الموقف الأوروبي من الانسحاب الأمريكي قبل أن يرد بالمثل، وهو الأكثر احتمالا، سيكون الأمر مختلفا.
الخلاصة أن الإدارة الأمريكية ترى اليوم أن الاتفاق النووي فشل في احتواء إيران إقليميا، وأنه في الوقت نفسه سحب منها أوراق قوة في مواجهة طهران، على رأسها ورقة العقوبات القاسية، وأعطى لإيران إقليميا ودوليا أكثر مما أخذ منها على حساب الدور الأمريكي (العراق وسوريا نموذجا). كما أن هذه الإدارة تجد في الاتفاق عائقا أساسيا أمام مواجهة إيران إقليميا بأوراق غير عسكرية، في ظل التكاليف الباهظة للخيار العسكري، بالتالي تشعر واشنطن أنها أصبحت صفر اليدين اقتصاديا وسياسيا من الاتفاق.
هذا هو سر الغضب الأمريكي، ما يجعل من الصعب أن يبقى الأمريكان ملتزمين به حتى عام 2025 موعد انتهاء صلاحيته، غير ذلك لا يوجد أي سبب مادي منطقي مرتبط بالاتفاق نفسه، يستدعي الانسحاب منه، مادام طهران ملتزمة به باعتراف الأمريكان أنفسهم أولا، ثم المنظمة الدولية للطاقة الذرية، والأوروبيين.
وإذا قررت الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب من هذا الاتفاق الدولي، لا يعني ذلك انهيار الاتفاق فنيا، إذ ستنتقل الكرة إلى ملعب أوروبا مباشرة، حينئذ صمود الأخيرة في مواجهة الضغوط الأمريكية، يبقي الاتفاق قائما ويبطل مفعول الانسحاب الأمريكي، أما رضوخها المتوقع على المدى المتوسط في ظل تشابك المصالح الاقتصادية بينهم، يجعل الاتفاق منهارا تلقائيا.
هذا الانهيار ان وقع سيكون بمثابة مفرخة لتوليد أزمات متلاحقة، ولها تداعيات كارثية على كل المنطقة، والأزمة التي ستعقب ذلك ستكون أكثر خطورة مما تشهده منطقة الشرق الأوسط من أزمات مركبة خطيرة في الوقت الحاضر، آخرها استفتاء الانفصال في إقليم كردستان العراق، وبالمجمل سترتبط مصائر جميع تلك الأزمات بمسار العلاقات الأمريكية الإيرانية خلال المرحلة المقبلة.
وأخيرا، لا بد من القول أن المشكلة الأساسية مع الرئيس الأمريكي الذي وصفه كيم جونغ أون بـ "الخرف" أو "دوتارد"، هو عدم قدرة أقرب المقربين له أن يحدد مسارا بيانيا أو نموذجا محددا يمكننا من توقع ماذا سيصبح علينا من مواقف مفاجئة خارج السياق.