في الحديث عن انهيار الثوابت السياسية في المنطقة، بما في ذلك انهيار القدرة على إدارة المشاريع الكبرى التي تهندس المنطقة وتضبطها؛ يمكن الحديث عن ثابتين متعلقين بالمرحلة، وإن كانا غير منفكّين عن طبيعة المنطقة، وثباتهما في هذه الحالة هو ثبات نسبي، أي أنه لا يخلو من فعل الظرف المتغير.
الأول، هو انسحاب أمريكا التدريجي من المنطقة، دون أن يعني ذلك تركها للفوضى والانفلات، وهذا يتطلب بدوره قوى إقليمية كبرى يستقرّ بها ميزان المنطقة، والقوى المتصدّرة لذلك حتى الآن، هي إيران وتركيا. انسحاب أمريكا متعلق بجملة عوامل، منها تراجع قدرات الدولة نفسها، وانقسام نخبتها التي تدير الدولة، وظهور تحديات إستراتيجية كبرى في مناطق أخرى من العالم، كالتحدّي الصيني.
لو أخذنا هذا العامل، الذي يمكن اعتباره من ثوابت المرحلة، بمعنى يمكن اعتماده عنصرا أساسيا في تحليل السياسات الجارية في إقليمنا، فإنّه يحيل أولا إلى ما افتتحنا به هذه المقالة، أي انهيار القدرة على إدارة المشاريع الكبرى، إذ لا يمكن للذي في طور التراجع والانسحاب إلا أن تتراجع قدرته على التخطيط والتنفيذ، ومن ثم، فإنّ المحاولة الأمريكية بضبط الفراغ الذي تتركه بميزان القوى الإقليمية الكبرى، بما يمنع من الانهيار ويضمن الاستقرار؛ هو غير مضمون ولا مؤكّد. وقد خلقت السياسة الأمريكية المضطربة والمفتقرة للقدرة التامّة على الضبط؛ جملة من المشكلات بالغة الخطورة في الإقليم، ليس هذا مقام ذكرها الآن.
والثاني، التغيرات المتسارعة، التي تعيد تشكيل المشهد، بما يشكّك لا في كل ثابت سياسيّ فحسب، بل وفي كل سياسة بدت راسخة وجدّية حتى الأمس، بمعنى أن المتغيرات في هذه المرحلة تتحوّل إلى ثابت، وذلك لأنها السِّمة المركزية في الجاري والراهن، فعدم الثبات هو الثابت، وهذا الثابت ناجم عن الفراغ، وتمدد القوى الإقليمية، وتراجع مكانة "إسرائيل" لدى النخب الحاكمة في الغرب على خلاف ما يبدو، وظهور الجماهير فاعلا مزاحما للفاعلين التقليديين، وفي ظرف تحولات إقليمية وعالمية أفقدت جميع الفاعلين اليقين الإستراتيجي.
لكن ذلك لا يعني أنه لا توجد محاولات لتشكيل ثوابت جديدة، منها محاولة خلق محور عربيّ تندمج فيه "إسرائيل"، يسعى للاستغراق في التحولات الجارية بما يضمن استقرارها على شكل تريده تلك الدول، هذه المحاولة ظهرت تجلياتها في حصار قطر، والسعي للتطبيع مع "إسرائيل" واستدخالها في تحالف يهدف إلى مواجهة إيران، وكسر موجة فعالية الجماهير، وتصفية الحساب تماما مع تركة الثورات العربية، وأشكال الوجود الإسلامي الحركي والمُسيّس في المنطقة.
هذا التحالف الذي يحاول الاستثمار في لحظة ترامب، وقد وضع بيضه كلّه في سلة ترامب وعائلته، في رهان لا يخلو من مقامرة لهشاشة موقع ترامب وعائلته داخل النخبة الأمريكية المنقسمة على نفسها. هذا التحالف في سعيه لتشكيل ثابت جديد، يقوم على جملة من المتغيرات، تجعل إمكانية تحقيق ذلك الثابت غير مؤكّدة بالضرورة.
هذه المتغيرات هي، لحظة ترامب، الرعب من الفراغ الناشئ وتمدد قوى إقليمية بعينها، والمصالح المتبادلة؛ التي أحوجت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لحاكم أبو ظبي الفعلي محمد بن زايد، الذي أنشأ شبكة علاقاته الخاصّة مع النخب الأمريكية الأقرب لليمين الإسرائيلي.
لم يكن ذلك السبب الوحيد في ربط محاولتهم بالحكومة الإسرائيلية الحالية، إذ تحتاج "إسرائيل" في هذه المرحلة لما يسندها بالنظر إلى انسحاب أمريكا، وتراجع مكانة "إسرائيل" لدى الغرب، وصعود قوى إقليمية هي في أحسن أحوالها بالنسبة لـ "إسرائيل" في حالة تنافس معها، إن لم تكن في حالة عداء معها، وبالنسبة لإيران فإنها باتت اليوم على حدوها.
وبالتأكيد؛ بالنسبة لـ "إسرائيل" فإن التطبيع خدمة جوهرية تتلقاها بصرف النظر عن ذلك السياق كلّه، كما أن احتياج المحور العربي السعودي الإماراتي المصري إليها، فرصة بالنسبة لها، لمحاولة فرض حلّ تصفويّ ما للقضية الفلسطينية.
أين مصر من ذلك السياق كله؟
كشفت أحداث ما بعد 30 يونيو في مصر، عن مستوى الاهتراء الهائل داخل النخبة المصرية، ودولتها العميقة، وهو ما يعني ضرورة التخفّف من إعطاء رؤى تلك النخب بدولتها العميقة، مكانة جوهرية في التحليل السياسي، إذ إنّ هذه النخبة المفتقرة للأهلية الكافية، والمفتوحة على كل احتمالات الاختراق، لا يمكن التعامل معها بجديّة كبيرة، فهي هشّة الإرادة، ضعيفة الاستقلالية، وفقيرة التفكير، لاسيما إزاء القوى الإقليمية والدولية.
فلننظر مثلاً لمسار عبد الفتاح السيسي بانقلابه منذ الـ 30 من يونيو، ونستعرض كل ما اتصل بذلك من إهدار لمقدرات مصر، وعبث بأمنها القومي، ودعم إسرائيلي هائل ومكشوف لانقلابه، بتنا في غنى عن استعراض أمثلته، ويكفينا أخيرا منه، كلمة السيسي بمضمونها الإسرائيلي في الأمم المتحدة، وإقرار عماد جاد أحد مثقفي انقلاب الـ 30 من يونيو المقربين من السيسي بالدور الإسرائيلي في ذلك الانقلاب ابتداء وإنشاء، ثم في دعمه وتثبيت أركانه.
حين دراسة ذلك المسار واستعراضه يبدو أيّ تحليل يمنح السيسي استقلالية في موقفه من القضية الفلسطينية، هشّا وضعيفا، ومن ذلك القول إنه استضاف المصالحة الأخيرة لاستعادة الدور المصري للقضية الفلسطينية، ووضع حدّ لإجراءات الرئيس عباس ضدّ غزة، ولاسيما إن قيل إن تلك الإجراءات مسنودة بترامب ونتنياهو.
كيف يمكن افتراض أن السيسي متحرر من ترامب ونتنياهو؟ أو أن كفيله الإماراتي الذي ربط كثيرا من خيوطه بترامب وعائلته يسمح للسيسي بمعاندة ترامب؟ وإذا كانت إجراءات الرئيس عباس مستندة إلى ترامب ونتنياهو، فإلى من يستند محمد دحلان؟ هل صار هذا الأخير إصلاحيّا فعلا؟! إنّ هذا التحليل باختصار يغيّب كل تلك الأسئلة والعوامل.
على الأرجح كانت الإجراءات ضدّ غزّة، خشية من ظروف تشكّل ذلك المحور العربي، المستند إلى مجيء ترامب، والمتحالف في السرّ وما يشبه العلن مع "إسرائيل"، فكانت الإجراءات ضدّ غزّة وسيلة استباقية لحماية النفس وأخذ مكان في ذلك المحور دون الاضطرار للاصطفاف الكامل معه، كما في حصاره لقطر.
في تلك الحالة لم تكن الإجراءات مزعجة لـ "إسرائيل"، وحتى وإن لم تكن بالتنسيق مع فاعلي المحور العربي الجديد، فإنّها تظلّ داخل الهامش المتاح إسرائيليا، وردّة فعل ذلك المحور بدورها، ستكون محكومة بالهامش الإسرائيلي كما في حالة مصر، أو بمقتضيات التحالف مع نتنياهو كما هو حال بقية عناصر ذلك المحور الأكثر فعالية ودورا، كالإمارات.
نعم، نحن في حالة سيولة وتغيرات لا تكاد تبقي مجالا للحديث عن الثوابت، وإنّ السياسات المتلاحقة تنسخ كل منها سابقتها بسرعة هائلة، وإنّ إمكانية فرض حلول أو مشاريع كبرى تبدو بالنظر لما قدّمناه وأسلفناه بالغة الصعوبة، لكن هذا لا يمنع من القول إن ثمة محاولات جارية لفرض مشاريع جديدة وترسيخ ثوابت جديدة، ستدخل إليها بالضرورة القضية الفلسطينية.
هنا بالنظر إلى الظرف المصري الراهن المفتقد للاستقلالية والمرتهن لجملة من الفاعلين الإقليميين، وتداخل أحداث الإقليم لتداخل فاعليه وكثرة مجالات اشتغالهم الجغرافية، تجوز لنا قراءة المصالحة على ضوء رؤية وترتيبات المحور العربي المتحالف مع نتنياهو وترامب. نحن لا نتحدث عن قدرة كليّة، ولا حتى عن قدرة ملموسة على الهندسة والضبط، وإنما عن محاولة لضبط هذا الإقليم من هؤلاء الفاعلين المتحالفين، وقد قدّمنا لتوضيح ذلك بما يكفي.
كلمة أخيرة.. إذا كان يمكننا التشكيك بالتحليل الذي يفترض إرادة مصرية لاستعادة الدور المصري بخصوص القضية الفلسطينية وقطع الطريق على ترامب ونتنياهو، فمن باب أولى التشكيك بتضخيم دور التنافس بين جهازي المخابرات العامة والحربية في موضوع المصالحة، دون نفي ذلك التنافس.