"الرعاية الصحية الشاملة" لطالما فقدت هذه العبارة الكثير من بريقها لكثرة استخدامها خلال السنوات الماضية دون أن نشهد على أرض الواقع خطوات جادة لترجمتها إلى خطط وخطوات عملية أو حتى الوصول لفهم مشترك لما تعنيه، وجرى الخلط بينها وبين توسيع مظلة التأمين الصحي.
كلما جرى الحديث عن الرعاية الصحية الشاملة تقفز إلى الأذهان تجارب رائدة لدول كانت تعاني قبل عقود قليلة من سوء مستوى الرعاية الصحية لكنها بالإرادة السياسية والتخطيط السليم والإصرار والعمل الدؤوب تمكنت من أن تبني نظما صحية متطورة ومستدامة.
وما أنا بصدده هنا أن أعرض لتجربة سنغافورة الرائدة التي تعتبر إحدى أهم التجارب في مجال الرعاية الصحية الشاملة من خلال توفير رعاية عالية الجودة وبكلفة معقولة إن لم تكن منخفضة تضمن القدرة على الاستدامة، ولا أدّعي هنا أن كل ما هو صالح لهذه الدولة يمكن أن يطبق في دول أخرى، فلكل دولة خصوصيتها لكن هنالك خصائص عامة عابرة للحدود.
فاليوم تحتل سنغافورة المركز السادس عالميا من حيث المؤشرات الرئيسية للصحة متقدمة على دول مثل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغنية رغم إن أنفاقها على الصحة نسبة إلى إجمالي الناتج المحلي لا يصل إلى نصف ما تنفقه هذه الدول.
لقد بدأت قصة نجاح التجربة السنغافورية منذ البذرة الأولى للنظام الصحي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وذلك باعتبار الرعاية الصحية إحدى الأولويات الوطنية، ثم وُضعت خطة إستراتيجية طويلة الأمد تم تنفيذها من خلال فريق عابر للوزارات والمؤسسات عمل بتناغم كبير بعيدا عن الحسابات الضيقة وثقافة الكانتونات السائدة في كثير من دول العالم الثالث، علما أن ثقافة العمل بروح الفريق لا تقتصر على القطاع الصحي بل تضرب جذورها في عمق الثقافة السنغافورية، ففي هذا البلد يجتمع الأمناء العامون للوزارات المعنية بصورة دورية لمتابعة الاستراتيجيات المختلفة وتذليل العقبات التي تعترضها.
كان لا بد في بدايات المشروع من تحقيق "إنجاز سريع" يساهم في استمالة المواطنين تجاهه وكسب تأييدهم وثقتهم به فكانت الرعاية الصحية الأولية الميدان المثالي لهذا الإنجاز فمن خلالها يمكن تحقيق مكاسب صحية ملموسة وبكلفة متواضعة، وتمّ تحقيق هذا من خلال جلب الخدمة الصحية بحيث تكون قريبة من الجميع وفي متناولهم من خلال عيادات مجهزة بوسائل التشخيص والعلاج والوقاية والتثقيف الأساسية، وهذه العيادات شكلت النواة الأولية لإنشاء مراكز صحية شاملة قامت بدورها في تخفيف الضغط عن المستشفيات لتتفرغ الأخيرة للقيام بدورها الذي أُنشئت من أجله والذي يقع في لبّ اختصاصها، ما أدى إلى خفض قيمة الفاتورة العلاجية بصورة ملموسة.
فما هي المرتكزات الأساسية التي ارتكز عليها النظام الصحي السنغافوري وكيف تمكنت من ضمان استدامة هذا النظام وتطويره وتوفير الأموال اللازمة للإنفاق عليه وضبط هذا الإنفاق لضمان عدم الوصول إلى مرحلة تجد نفسها عاجزة عن الاستمرار في تطبيقه. هذا ما سأحاول التعرض له في مقالات قادمة بأذن الله.