طالما شكلت مقولتا الأمن والحرية نقاشا على المستوى الفكري بين المدافعين عن الاستقرار والسلام مقابل المدافعين عن الحريات، وعادة ما يحتدم هذا النقاش في الدول التي لم تستطع التوفيق بين المقولتين، فظلت إحداهما بمثابة نفي للأخرى: لا سلام داخليا مع الحريات، ولا حريات مع الأمن والاستقرار.
حدث هذا أثناء الثورة الفرنسية مع الفلاسفة الذين نافحوا عن الثورة ومبادئها وأساليبها العنيفة، في حين وقف مفكرون آخرون ومنهم إدموند بيرك موقفا مناقضا حين اعتبر الثورة مجرد نتاج عنيف لروح نظام يدعي إلغاء القانون العرفي القديم وإقامة حقوق طبيعية للإنسان تركز فقط على تجريدات هشة لعقل مجرد.
وحدث الأمر نفسه في عصر النهضة الإيطالية وخصوصا في روما وفلورنسا حين تجابه المدافعون عن الحرية الجمهورية مع أولئك المدافعون عن الاستبداد تحت عنوان حفظ الأمن والاستقرار الداخلي.
ربما تشكل سوريا على المستوى العربي نموذجا صارخا لهذه العلاقة الحدية منذ مرحلة الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي وحتى الآن، حيث يمكن تقسيم التاريخ السياسي منذ ذاك الحين إلى مرحلتين، الأولى استمرت منذ الاستقلال وحتى عام 1970، والثانية مع وصول حافظ الأسد إلى الحكم وحتى اندلاع الثورة السورية عام 2011.
اتسمت المرحلة الأولى بتوسع الحريات السياسية والمدنية، وشهدت البلاد حراكا سياسيا قل نظيره في البلاد العربية، من تعدد الأحزاب والأيديولوجيات (ليبرالية، يسارية، قومية، إخوانية) إلى تنوع الحراك المدني، وكانت البلاد على موعد مع أول انتخابات ديمقراطية حقيقية عام 1954 نتج عنها برلمان فاعل على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
لكن هذا الحراك ارتبط بالانقلابات العسكرية الكثيرة التي شهدتها هذه المرحلة، ما انعكس سلبا على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأضعف القدرة السياسية والسيادية لسوريا في محيطها الإقليمي، ونشأ نقاش حول إمكانية تحقيق الاستقرار دون التأثير سلبا على الحريات المدنية والسياسية، لكن فشل تجربة الوحدة مع مصر خلفت أثرا فكريا لدى النخب السياسية والعسكرية عبرت عنه ثورة 1963 التي شكلت بداية المرحلة الثورية واستمرت إلى عام 1970 مع وصول الأسد إلى الحكم وبداية المرحلة الثانية.
مع حافظ الأسد بدأت المرحلة الثانية كنفي للمرحلة الأولى حيث انقلب الواقع السوري فيها رأسا على عقب، فما كان يعتبر ترياقا للحياة السياسية تحول إلى داء لها، وبالتالي كان لا بد من إنهاء الفوضى السياسية المتمثلة بالحريات وتأسيس الاستقرار السياسي في البلاد.
شكلت هذه المرحلة نقلة مهمة في تاريخ سوريا المعاصر، إذ استطاع الأسد تحقيق استقرار داخلي لم تعرفه البلاد من قبل، انعكس ايجابا على المستوى الداخلي وعلى المستوى الإقليمي حيث أضحت سوريا قوة لا يستهان بها بعدما كانت ألعوبة بيد الفرقاء العرب.
لقد جادل كثير من المفكرين على أهمية مثل هذه الشخصيات التي تحكم البلاد أثناء الأزمات، والدفاع عن سياستها الشمولية كونها ضرورة في مرحلة تاريخية معينة من بناء الدولة، لكن الذي جرى في سوريا أن هذه الضرورة الاستثنائية تحولت إلى صيرورة تاريخية وقانون وسم الحياة السياسية بكاملها، وشيئا فشيئا تقلص السياسي لصالح الأمني إلى أن اندثر نهائيا مع تحول الأحزاب إلى ديكور شكلي غايته إعطاء النظام مسحة ديمقراطية، وتحولت المنظمات المدنية إلى وكالات أمنية، وتحولت الانتخابات إلى مجرد استفتاءات.
وفي محاولة من النظام لشرعنة هذا الواقع اجتماعيا، بدأت عملية تضخيم أيديولوجية لأهمية الاستقرار الذي شهدته البلاد والنتائج التي ترتبت عليه، في مقابل التخويف والتهويل من الفوضى السياسية التي قد تنجم عن الحريات الداخلية، وقد ربط النظام مقولتي الاستقرار بالحرية ربطا محكما، فإما الاستقرار أو الحرية، إنها المعادلة التي وُضعت وأصبحت قانونا بالنسبة للنظام.
ومع كل مفصل تاريخي كان النظام يضخم مفاهيم السيادة والوطنية والصمود والمقاومة إلى أن تحولت سوريا فعلا إلى قلعة للصمود في مواجهة المشروع الإسرائيلي ـ بغض النظر عما إذا كان هذا التوصيف حقيقيا أم لا، فما هو مهم تأثير هذه المقولات في الوعي الاجتماعي، وتحولها مع الوقت إلى مخيال اجتماعي، والمخيال الاجتماعي مجال تسوده القناعة لا المعرفة بحسب الجابري ـ لكنها تحولت أيضا إلى قلعة أمام الحريات الداخلية والحقوق الدستورية، إنها دولة الأمن والإكراه على حساب دولة القانون والمؤسسات.
كان من نتيجة ذلك، تصحر الحياة السياسية بالكامل واستحالة إجراء أي إصلاح جدي قادر على تغيير البنى السياسية والاقتصادية، الأمر الذي حال دون تشكل كتلة تاريخية سياسية قادرة على ممارسة ضغوط على السلطة.
لقد قُدر لسوريا أن تعيش هاتين المرحلتين بطريقة حدية راديكالية، ولذلك كان من الطبيعي وفق السياق التاريخي أن تشكل مرحلة الثورة نفيا لهاتين المرحلتين ومقولاتهما، لا من أجل توحيدهما في مرحلة جديدة تجسد مسار العقل المطلق في التاريخ الذي يجد تعبيره الأخير في الدولة المدنية الديمقراطية، وإنما جاء هذا النفي خارج الدولة والتاريخ، ليستحيل الاستقرار إلى فوضى وتستحيل الحرية إلى ديكتاتورية.
لم يدرك النظام السوري أهمية الحريات المدنية والسياسية وتأسيسها دستوريا في بناء وتطوير الدولة والمجتمع على السواء، وظلت المقولات الثورية تحكم مسارب الدولة في علاقتها بالمجتمع إلى الآن، بالمقابل لم يدرك دعاة الحرية أهمية الأمن والاستقرار ليس فقط كهدف نهائي للمجتمعات، بل كهدف تكتيكي للثورة نفسها من أجل الوصول إلى أهدافها بأقل التكاليف، بغض النظر عن سياسات النظام الأمنية والعسكرية التي شكلت السبب المباشر لعسكرة الثورة، وأدت إلى خروج قيادة الشارع من الذين تغلبت عليهم صفة الحداثة والانتماء إلى المجتمع المدني.