مع دخول موسم الحج عادت أزمة الحصار السعودي الإماراتي لقطر لتصدر المشهد السياسي العربي والإقليمي وذلك عقب قرار الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز بالسماح للحجاج القطريين بآداء فريضة الحج وعلى نفقته الشخصية، وهو ما اعتبره البعض نوعا من الإنفراج النسبي للأزمة في حين اعتبره الكثيرون أنه تسخين جديد لها عبر محاولة الوقيعة بين الأسرة الحاكمة في قطر نفسها، أو ترتيب بديل سياسي للحكم الحالي في الدوحة.
القرار الملكي السعودي استند إلى وساطة شكلية تم ترتيبها مع الشيخ عبد الله آل ثاني الابن التاسع لحاكم قطر الراحل الشيخ على بن عبد الله آل ثانى، وحفيد حاكم قطر عبد الله بن جاسم آل ثانى، والذي تراهن عليه السعودية لتنصيبه أميرا لقطر، سواء عبر ترتيب محاولة إنقلابية داخلية، أو عبر تدخل عسكري مباشر، أو بقوة الضغط السياسي، وقد أسفرت هذه الوساطة الشكلية عن تطور شكلي أيضا بالسماح للحجاج القطريين بالحج على نفقة الملك سلمان، وهو القرار الذي لقي استجابة محدودة جدا من بعض القطريين الذين لديهم إرتباطات أسرية بالسعودية ( زوجات أو أزواج سعوديين) أو ارتباطات تجارية (بزنس في السعودية)، في حين رفضها غالبية راغبي الحج القطريين تقديرا لموقف قيادتهم ممثلة في الأمير تميم، وظهر ذلك بقوة في تفاعل القطريين مع رقم الخدمة المباشرة الذي أعلنته السعودية تحت إدارة الشيخ عبد الله آل ثاني، حيث حرص القطريون على تسجيل مكالمات دعم لأميرهم تميم، ورفض المكرمة الملكية السعودية التي لا يحتاجون لمثلها وهم أعلى شعوب المنطقة والعالم من حيث دخل الفرد، وقد تسببت ردود القطريين في إلغاء السعودية رقم خدمة الشعب القطري بعد يوم واحد فقط من الإعلان عنه، وهو ما يعد ضربة لمشروع الإنقلاب الجديد.
مخاوف تدويل المشاعر
في بداية الأزمة في شهر مايو الماضي، والتي بدأت باختراق وكالة الأنباء القطرية وبث تصريحات مزيفة للأمير تمييم كان من الواضح أنها جزء من خطة تهيئة الأجواء لتنفيذ انقلاب على الحكم القطري يقوده أحد أفراد العائلة الحاكمة أيضا بدعم سعودي إماراتي، ولكن أطراف ذاك المخطط فشلت في تنفيذه فعمدت إلى قطع العلاقات وفرض الحصار يوم 5 يونيو2017، ثم تلت ذلك بمجموعة من القرارات والإجراءات التصعيديية ضد قطر، بهدف تثوير القطريين ضد حكومتهم، وتحريض المجتمع العربي والدولي ضد قطر، ولكن دخول القوات التركية إلى قاعدتها في الدوحة أزال مبدئيا خطر حدوث تدخل عسكري سعودي إماراتي، وهدأت الأمور قليلا لتتواصل الضغوط السياسية، والتي كان من بينها إغلاق الحدود ما يعني حرمان القطريين من الحج مباشرة من بلدهم، ولكن هذا الإجراء تحديدا انقلب ضد السعودية ذاتها التي بدت أمام الشعوب الإسلامية مانعة للقطرييين من الحج.
وهو ما يتنافي مع دورها كخادمة للحجاج وليست وصية عليهم، وهو ما فتح الحوار مجددا حول فكرة تدويل المشاعر المقدسة، حتى لا تظل تحت هيمنة السلطات السعودية تتصرف فيها وفقا لهواها السياسي وليس وفقا لمصالح المسلمين، ونتيجة تصاعد هذا الجدل خشيت السعودية من تحوله إلى مطالب رسمية تتبناها بعض الدول تحت ضغط شعوبها، خاصة أن إيران طرحت هذا الأمر بالفعل منذ عدة سنوات ويمكنها أن تعيد طرحه وتجد من يناصرها هذه المرة على عكس المرات السابقة، ولذا فقد لجأت السعودية لتلك الوساطة الشكلية مع الشيخ عبد الله آل ثاني لتضرب أكثر من عصفورر ببحجر واحد، فهي أرادت أن تثبت انها ترحب بالحجاج القطريين بشكل مباشر وعلى نفقتها أيضا، لترمي بالكرة في ملعب السلطات القطرية التي فوتت الفرصة على السعوديين بقبولها لهذا الإجراء ، وكان السعوديون يتوقعون عدم قبوله، وبالتالي يضعون الحكومة القطرية في مواجهة شعبها.
وكان من أهداف هذه الوساطة الشكلية أيضا تلمييع الشيخ عبد الله آل ثاني وتسويقه شعبيا لدى القطرييين، وتأهيله لتولي الحكم في انقلاب أبيض أو أسود، بعد أن فشل الرهان السعودي على المحاولة الانقلابية السابقة، وفي إطار عملية التأهيل أعلنت المملكة عن خط الخدمة المباشرة للقطريين تحت إدارة الشيخ عبد الله، والذي لم يستمر أكثر من 24 ساعة، كما أنشأت حسابا على تويتر للشيخ عبد الله، ورعته بلجانها الإلكترونية سواء في مركز اعتدال أو غيره من المراكز ليصل عدد المعجبين بالحساب إلى أكثر من 200 ألف خلال يوم واحد، وليتم توثيقه بالعلامة الزرقاء التي تحتاج إلى وقت أطول، وقد تم ذلك رغم التشكيك في صحة نسب الحساب للشيخ عبد الله وهو ما كان يستوجب تقصيا من إدارة تويتر حفاظا على سمعتها.
ويظهر الترحيب والتهليل الواسع بحساب الشيخ عبد الله في الإعلام السعودي والإماراتي والمصري جانبا من المؤامرة التي يبدو أنها حيكت بمعرفة دول الحصار الأربع، ويبدو أن اللجان الإلكترونية المخابراتية في الدول الأربع تسابقت في التسويق لهذا الحساب ليصبح المنبر الإعلامي للتواصل مع القطريين الذين لا يثقون في إعلام دول الحصار، ومن الواضح أن الخطة التآمرية الجديدة تعتمد على بث تصريحات وربما قرارات وتعليمات من الشيخ عبد الله عبر حسابه التويتري الجديد، وحصد المزيد من الاعجاب بالحساب من القطريين( ولو بالتزوير) لتأكيد شعبية الشيخ، وربما بعد فترة يكون من هذه التوجيهات حث الشعب القطري على التظاهر ضد حكومته، ودعوة السعودية لدعم هذا الحراك الشعبي من خلال قوات درع الجزيرة، لكن ما يحطم هذه الأحلام هو وعي القيادة القطرية بطبيعة هذا التآمر وجاهزيتها للرد من ناحية، وكذا وجود القوات التركيية في قاعدتها بالدوحة من ناحية أخرى، وهي القادرة مع القوات القطرية على صد أي تحرك عسكري، ولذا تبدو المؤامرة على قطر في حالة تخبط شديد، وتبدو المملكة كمن صعد أعلى الشجرة ولا يستطييع النزول، فيصدر أصواتا غريبة، ويحتاج لمن ينقذه، ويساعده على النزول، وربما كان هذا الشعور تحديدا هو ما دفع القيادة القطرية لقبول القرار السعودي الأخير بشأن الحجاج رغم عدم معقوليته، ورغم مغازيه التي لا تخطئها عين، فقد ارادت القيادة القطرية تسهيل مهمة التراجع أما السلطات السعودية، وفتح بابب الحوار لتسوية بقية القضايا.
معركة ابتلاع قطر.
المعركة ضد قطر لم ولن تتوقف سريعا، لأن الهدف كان كبيرا وهو ابتلاع قطر ذاتها، وليس فقط مجرد تغيير نظام الحكم، أو حتى مجرد تنفيذ بعض المطالب الصغيرة مثل طرد بعض رموز الإخوان المسلمين وحركة حماس وبعض الشخصيات الأخرى المنتمية لدول الربيع العربي الخ، ويدرك القطريون هذا الهدف الحقيقي للمعركة ويتعاملون مع هذه الحقيقة المرة، دفاعا عن وجودهم ووجود دولتهم ذاتها التي ظلت مطمعا سعوديا منذ انسحاب الإنجليز منها مطلع السبعينات وحتى الآن.
في اعتقادي أن المصلحة القومية والإسلامية تقتضي من السلطات السعودية التريث، والعودة إلى العقلانية التي كانت سمة لسياسات المملكة من قبل، وإدراك التحديدات التي تهدد وجود المملكة ذاته، والمؤامرات ضدها التي يشارك فيها بعض أقرب حلفائها الحاليين الذين كشفت تسريبات السفير الإماراتي في واشنطن سعيد العتيبة جانبا منها، وأن تدرك ان ملياراتها التي دفعتها لترامب او لغيره من "قبضايات العالم" لن تجدي لها نفعا مع قناعة هؤلاء القبضايات أنفسهم بضرورة التخلص من هذه المملكة التي يعتبرونها مصدرا للشرور، أو في أحسن الحالات مجرد بقرة حلوب ينتهي دورها بجفاف ضرعها.