قبل نحو شهر امتلأ الأثير العربي بالعويل والنحيب والوعيد، لأن إسرائيل فرضت قيودا على الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، ووضعت أبوابا الكترونية في مداخل المسجد، وكان ذلك يعني من الناحية العملية أن أكثر من ثلثي الراغبين في الصلاة في الأقصى، كانوا سيؤدون الكثير من الفروض قضاء في بيوتهم لأن تفتيش مئات المصلين (دعك من الآلاف منهم) يستغرق أكثر من ساعة.
ودعتني قناة تلفزيونية للمشاركة في برنامج حواري حول "قضية الأقصى"، تلك فاعتذرت لمنتج البرنامج، متعللا بأنني لا أريد له أن يروح هو فيها فسألني: كيف؟ فقلت له لأنني اعتقد انه هدر للوقت واستخفاف بالعقول أن نتباكى على حجْر حرية التعبد في الأقصى، كل بضع سنوات، ثم نتذكر كيف أن الإسرائيليين يحفرون أنفاقا تحت المسجد بحثا عما يقولون إنها مقدساتهم ومن بينها هيكل سليمان.
أمر تحويل العرب والمسلمين للمسجد الأقصى إلى حائط مبكى، نبهني اليه وأنا في شرخ الشباب، الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب في قصيدته الرائعة - رغم احتشادها بألفاظ نابية- "القدس عروس عروبتكم"، ولدينا مثل سوداني جميل المعاني والمغازي يقول عمن يترك الأمر أو الجاني الأصلي وينشغل بالجانبي/ الثانوي "فلان عينه على الفيل ويطعن ظله" أي ظل الفيل.
وهذا ما نفعله بالضبط، فالأقصى خاضع للاحتلال لأن فلسطين محتلة، وما لم تتحرر فلسطين أو - لنكن أكثر تواضعا – تتحرر الضفة الغربية وتصبح القدس – لنتواضع مجددا – الشرقية عاصمة لفلسطين الحرة المستقلة، فسنظل نلطم الخدود ونشق الجيوب كل بضع سنوات لأن "الصهاينة الملاعين" منعوا جميع أو بعض المصلين من دخول المسجد، فالأقصى ظل وفلسطين عود أعوج، ولا يمكن ان يستقيم الظل والعود.. عليك نور.
وبلغة تقريرية مباشرة لا معنى للتباكي على حال/ وضع المسجد الأقصى، ولا معنى للعنتريات اللفظية و"ويلك يا اللي تعادينا يا ويلك ويل .. حنا للخيل وحنا للويل"، ولو كان أمر وسائل الإعلام بيدي لما سمحت حتى بالحديث عن تحرير فلسطين كخطوة مفتاحية لانتزاع المسجد الأقصى من براثن الاحتلال الإسرائيلي.
لماذا؟ لأن من منحتهم القيادات والقمم العربية توكيلا (تنازلاً) لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، رضوا من الغنيمة بالفتات، وفي منتهى الانبساط بما خرجوا به من الاتفاق المسمى غزة – أريحا، وهو الاتفاق الذي نعته رسام الكاريكاتير الفلسطيني العبقري ناجي العلي ب"أبو ريحة" وراح هو فيها قتيلا في لندن.
وأقولها صريحة: من حقنا كرعايا (لم أقل "مواطنين")، بل ومن الطبيعي أن نحزن ونغضب لأن واحدا من أقدس مقدساتنا خاضع للاحتلال من طرف لا يضمر لنا الخير، ولكن أن نعتبر القدس عموما وعلى بعضها أم القضايا فهذه "انصرافية" استدرجنا اليها الحكام، فلا قدس بدون فلسطين حرة ذات سيادة، ولا مسجد أقصى تتاح فيه حرية التعبد بدون قدس في فلسطين حرة.
ولكن هيهات!! لماذا؟ الرد عند مظفر النواب منذ عقود: من باع فلسطين سوى قائمة الشحاذين على عتبات الحكام / ومائدة الدول الكبرى؟ فإذا أجن الليل / تطق الأكواب بان القدس عروس عروبتنا/ أهلا أهلا أهلا/ من باع فلسطين سوى الثوار الكتبة ؟
ثم يصب النواب حمم براكين لسانه على "رمز القضية"، الذي ساهم في تحنيطها، والذي تكرّش حتى صار بلا رقبة، ولو عاش الشاعر ليشهد مساخر ورثة ذلك المتخم بالصدف البحري، وعصرا فيه صار الرجوب ودحلان وشعبان ولاعبو الكنكان، ناطقين باسم القضية المركزية، لخرج (النواب) عما تبقى من وقاره وصاح، كما صاح صدام حسين في رسم كاريكاتوري للعبقري السوري علي فرزات، نادما على التحرش بالأمريكان في المواجهة التي اسماها أم المعارك "أم المعارك على ام ال....".
ألا تجدون العذر للنواب وناجي العلي وفرزات عندما يلجؤون من فرط الإحساس بالقرف لاستخدام مفردات نابية؟ بالله عليكم كيف تستطيع أن تعبر عن مشاعرك بصدق، دون ان تهتف: لن يبقى عربي واحد/ إن بقيت حالتنا هذي الحالة/ بين حكومات الكسبة (المرتزقة التي تبيع الأوطان بالقدم المربع مفروشة)؟.
كن في جرأة مظفر النواب واهتف ملء حنجرتك: تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم/ لا تهتز لكم قصبة/ الآن أعريكم/ في كل عواصم هذا الوطن العربي، قتلتم فرحي/ في كل زقاق أجد الأزلام أمامي. (والأزلام المشار إليها هنا، رجس من عمل الأمريكان.
وانظر - يا رعاك الله - كيف يكون الشاعر عرّافا: ماذا يُدعى تتقنع بالدين وجوه التجار الأمويين؟ (وكان هذا قبل العصر البشاري النذيري)/ ماذا يدعى الدولاب الدموي ببغداد؟ (وكان الحشد الشعبي وقتها في رحم الغيب)/ ماذا تدعى الجلسات الصوفية في الأمم المتحدة؟ (ما زال دراويشنا يتراقصون ويترنمون في نيويورك: مدد يا ساكن البيت الأبيض، مدد.
للمسجد الأقصى قدسية أضفاها الرحمن عليها، ولكن القضية الملحة ليست الفوز بحرية التعبد فيه، بل تحرير الماعون الذي يحتضنه، وهو القدس، والتي لا يمكن تحريرها ما لم يتحرر الوطن الذي يقال لنا إنها عاصمته، والحل لا يكون بالمطالبة بتحويل الأقصى إلى فاتيكان، كما يريد طالبو الحلول دون الوسطى، وهم يحسبون أننا لا نعرف أن الفاتيكان خاضع للحماية الإيطالية، والطليان هم من أرادوا للفاتيكان أن يتمتع بنوع من الاستقلالية الإدارية، لأسباب سياحية ثم دينية.
ونعرف أيضا أن إسرائيل لن ترفع يدها عن الضفة الغربية، وأنها سعيدة بسعادة أبوات السلطة الفلسطينية بما عندهم من مسميات وظيفية/ مناصب، وأن الطرف الوحيد الذي بمقدوره أن يقول لإسرائيل بحزم مقرون بالعين الحمراء: "أخرجي منها"، هو الولايات المتحدة، ولكن أمر فلسطين آخر ما يعني تلك الولايات المتحدة، لأنها تعرف أن حلفاءها العرب - وما أكثرهم - غير معنيين بدورهم بأمر فلسطين.
وبعد أن تحولت فلسطين من قضية مركزية الى هامشية، بإيعاز من الفحل الأمريكي وبرضاء النعاج العربية، فأبشروا بفلسطينات جديدة في ليبيا واليمن والعراق وسوريا، تنجم عن علاقة الفراش مع الولايات المتحدة، و"الحمل من الأعداء، ذميم ومخيف"، ومواليد تلك العلاقة سيكونون بعكس "فلسطين الأصلية" أبناء/ بنات سفاح يعانون من إعاقات تستعصي على العلاج، وبهذا يصبح ما كنا نسميه الوطن العربي أكبر مركز لذوي الاحتياجات الخاصة المحتاجين للتأهيل، ولكن لا تأهيل.