تشهد المعارضة السورية مخاضا سياسيا جديدا يختلف تماما عن المراحل السابقة، مخاضا ستتحدد معالمه في الاجتماع المرتقب بين "الهيئة العليا للمعارضة" وبين منصتي موسكو والقاهرة في 22 الشهر الجاري بجنيف.
لا يتعلق الأمر هنا بمجرد توسيع مروحة القوى السياسية المعارضة داخل "الهيئة العليا للمفاوضات" فحسب، بقدر ما يتعلق الأمر بإجراء انزياحات سياسية ستترتب على هذا التوسيع، نتيجة الخلاف بين الطرفين حول تفاصيل الحل السياسي.
"الهيئة العليا للمفاوضات" ماتزال تتمسك بمخرجات مؤتمر الرياض المنعقد في ديسمبر / كانون الأول من عام 2015، والذي يدعو إلى التمسك بتطبيق بنود المرحلة الانتقالية الواردة في "بيان جنيف 1"، خصوصا البند الخاص بتأسيس هيئة حكم انتقالي تتمتع بكافة الصلاحيات التنفيذية، على أن يغادر الأسد ورموز حكمه سدة الحكم مع بداية المرحلة الانتقالية.
أما منصتا موسكو والقاهرة، فهما تدعوان إلى اعتماد مرجعية القرارات الدولية ذات الصلة، وخصوصا القرار الدولي 2254 الذي يشكل المرجعية الأساسية للحل، فضلا عن اعتماد التفاهمات الدولية كمرجعيات مرافقة للمرجعية الأممية، فضلا عن أن مصير الأسد يتحدد ضمن التفاهمات السورية ـ السورية التي تعقب بدء المرحلة الانتقالية، وليس قبلها.
وعليه يمكن القول إن الاجتماع المقبل لهذه الأطراف سيكون بمثابة الكباش السياسي الذي تتخلل فيه أصابع الأطراف الدولية والإقليمية.
"الهيئة العليا للمفاوضات" ستحاول ما استطاعت ترويض منصتي موسكو والقاهرة، وقد تجد فرصة لتحقيق ذلك في ضوء التباين بين المنصتين، حيث تبدو منصة القاهرة بمثابة المنزلة بين المنزلتين، فهي تتوافق في خط العام مع الهيئة العليا، وتتفق في بعض التفاصيل مع منصة موسكو.
قد يكون مصير الأسد النقطة التي سيتوافق عليها الجميع طالما أنها مسألة حسمت على صعيد التفاهمات الدولية، ولا قبل للمعارضة القدرة على فرض شروطها، لتبقى مسألة المرحلة الانتقالية وموقع هيئة الحكم منها هي الإشكالية.
وهذه المسألة هي التي تشكل الخلاف الحقيقي بين الأطراف، وتبدو منصة القاهرة أقرب إلى الهيئة منها إلى منصة موسكو، فالأخيرة تتبنى الرؤية الروسية الكاملة، التي لا تريد تشكيل هيئة حكم ذات صلاحيات تنفيذية كاملة يكون على أثرها منصب الرئيس رمزيا.
المعضلة هي أن مصير الأسد غير منفصل على ترتيبات الحكم في المرحلة الانتقالية، فإذا كان الأسد جزءا من المرحلة الانتقالية، فهذا ذلك يعني أن له صلاحيات بغض النظر عن حجمها ومستواها، وهو أمر سينعكس على هيئة الحكم التي لن تكون ذات صلاحيات كاملة.
ولذلك، فإن وثيقة دي ميستورا حول أسس المرحلة الانتقالية والتي تم التوافق عليها مبدئيا بين الأطراف المعارضة الثلاثة، أكدت على أن أي عملية انتقال سياسي ستتم تحت إشراف حكم انتقالي جديد وجامع وذي مصداقية يحل محل ترتيبات الحكم الحالية، من دون الإشارة إلى هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة.
وهذا يعني وفق ما يعنيه أن المرحلة الانتقالية لا تهدف إلى إجراء تغيير جذري في نظام الحكم على طريقة بيان "جنيف 1"، وإنما إجراء تغيرات سياسية لا تؤدي إلى إسقاط النظام كاملا، ولا تمنحه بالمقابل القدرة على الاستمرار وفق ما هو عليه الآن.
بعبارة أخرى، يجب أن تؤدي المرحلة الانتقالية إلى نوع جديد من الحكم مع الحفاظ على مؤسسات الدولة، وفي بلد يصعب التمييز فيه بين الدولة والنظام كونهما متماهيان، سيكون النظام ليس فقط جزءا رئيسيا من هذه الترتيبات أثناء المرحلة الانتقالية، وإنما سيكون جزءا رئيسا من المرحلة التي تلي المرحلة الانتقالية، وربما نفهم هنا تصريحات عادل الجبير التي سربت أثناء لقاءه رياض حجاب حين قال وفقا لهذه التسريبات أن مهمة المعارضة والدول الصديقة لها في المرحلة المقبلة ستكون العمل على إقناع الولايات المتحدة أن تضع ثقلها لضمان عدم وجود أي دور للأسد في مستقبل سوريا بعد المرحلة الانتقالية.
لم تكن هذه النتيجة مفاجئة، فالانزياحات السياسية في المواقف الدولية بدأت منذ نحو سنتين، ويبدو طبيعيا وفقا لهذا المسار أن تنتهي الأمور إلى ما انتهت عليه، وخطأ المعارضة وتحديدا الائتلاف الوطني ومن ثم الهيئة العليا أنهما ربطا الأزمة السورية بشخص الأسد، وهو ربط لا يستقيم مع الحالة السورية التي تشكل استثناء عربيا، وكان من الأولوية التركيز على ترتيبات الحكم الانتقالي أكثر، فمنها يمكن الانطلاق أو تأسيس منظومة حكم تتطورا تدريجيا نحو نظام ديمقراطي، وعندها يكون مصير الأسد مجرد تفصيل.
المسألة المهمة اليوم في ضوء هذه المتغيرات، هو أن يتم انجاز توافق سياسي كامل بين الأطراف المعارضة، تتخلى بموجبه "الهيئة العليا للمفاوضات" عن خطابها السياسي غير الواقعي، وتتخلى المنصتين الأخرتين عن خطابهما المغرق في الواقعية، للوصول إلى خطاب سياسي موضوعي ومتوازن يساهم في إحداث تغيير حقيقي وإن على مراحل في نظام الحكم القائم.
كما يتطلب الأمر معرفة المدى الذي ستواصل فيه الدول الإقليمية دعمها للمعارضة، فليس معروفا إلى الآن حجم التغيير الذي سيطرأ على الموقف السعودي، في وقت يبدو الموقف التركي غامضا من ترتيبات الحكم على الرغم من انخفاض مستوى الخطاب السياسي المعارض لأنقرة.