تصاعد الحرب الكلامية بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية تثير قلقا كبيرا في أروقة السياسة العالمية. فلو اندلع النزاع المسلح فلن يكون عاديا بل قد يستخدم السلاح النووي فيه، الأمر الذي يهدد بكارثة إنسانية واسعة. كما لن يقتصر النزاع على الطرفين المذكورين، بل قد يجر دولا أخرى خصوصا الصين التي تربطها علاقات وثيقة مع كوريا الشمالية، والتي هي الأخرى أصبحت تمثل هما استراتيجيا لأمريكا. المشكلة التي تتضح من النزاعات المسلحة أن اندلاعها يحدث بقرار من أحد أطراف النزاع، ولكن وقفها ليس بأيدي أحد. فما إن تندلع أتون الحرب، حتى يخرج مسارها عن أيدي المشاركين فيها. هذا ما حدث في الحربين العالميتين، وكذلك في الحرب الكورية في بداية خمسينيات القرن الماضي، وحرب فيتنام لاحقا. وعندما لا يكون هناك توازن في القوة العسكرية ويمنى الطرف الأضعف بهزيمة عسكرية حاسمة، كما هو الحال مع الحربين اللتين شنتهما الولايات المتحدة وحلفاؤها على العراق في 1991 و 2003، فإن النزاع لا يتوقف بتوقف الحرب.
فقد مضى حتى الآن أكثر من 14 عاما على الحرب الإنكلو أمريكية على العراق، ولكن أمريكا ما تزال تشارك في أعمال عسكرية داخل العراق. ولكن أغلب الحروب ليس من هذا النوع، بل من النوع الذي يتواصل النزاع فيه دون أن يتمكن أي من الأطراف من تحقيق غلبة كاملة. وهذا ما تواجهه السعودية في اليمن. فقد مضى ثلاثون شهرا على الحرب التي بدأتها السعودية على ذلك البلد، وما تزال نيرانها ملتهبة. فبرغم التفوق العسكري النوعي للقوات السعودية، ودعم دول عديدة لها ومن بينها الولايات المتحدة وبريطانيا، فقد عجزت حتى الآن عن كسر شوكة اليمنيين الذين يدافعون عن بلادهم. بل إن السعودية نفسها تشعر بالحرج الشديد لاستمرار سقوط الضحايا من جنودها ومواطنيها في المناطق الحدودية. ومع استمرار الحرب تتصاعد الضحايا وتنتشر الأمراض، وشيئا فشيئا تخترق أصوات الضحايا جدران الصمت، فترتفع الأصوات المطالبة بوقف الحرب، وتوجه الاتهامات للطرف «الأقوى» بأنه المسؤول عن الكوارث الإنسانية وانتشار الأوبئة. وحتى النزاع السياسي الذي يحدث بين الدول كثيرا ما يطول فتخرج المبادرة من أيدي الذين بدأوه. وهذا ما يحدث الآن مع الأزمة التي افتعلتها السعودية وحليفاتها الثلاثة مع قطر. فمن كان يعتقد أن هذه الدولة الخليجية الصغيرة ستستطيع مقاومة الهجمة السياسية الشرسة التي فاجأت العالم. ربما اعتقد الكثيرون أن قطر سوف تستسلم دون شرط، خصوصا عندما أعلن فرض الحظر البري والجوي والبحري عليها، وحوصر شعبها بوحشية تشبه في بعض جوانبها ما يتعرض الفلسطينيون له على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية، مع ذلك لم يستطع الذين استهدفوا قطر إيصال مشروعهم إلى نتيجة مرضية، بل إن المؤشرات توحي بهزيمة غير متوقعة للتحالف الذي تشارك فيه مع السعودية كل من مصر ودولة الإمارات وحكومة البحرين. وتجدر الإشارة إلى بضعة تطورات تؤكد ذلك:
الأول: في الأسبوع الماضي أعلنت السعودية رغبتها أن تستلم الأمم المتحدة مطار صنعاء، لكي تعيد فتحه وتسمح بوصول الغذاء والدواء لشعب حوصر ثلاثين شهرا، وانتشرت فيه الأوبئة خصوصا الكوليرا. ووفقا لآخر الإحصاءات تؤكد منظمة «يونيسيف» أن عدد المصابين بهذا المرض يقترب من نصف مليون إنسان، وأن عدد ضحاياه بلغ 1961 منذ 27 نيسان/إبريل الماضي. وهذا يمثل ضغطا هائلا على السعودية التي تعتبر المتسبب الأساسي في انتشار الوباء، بسبب الحصار الذي فرضته على اليمن. هنا كان لصمود اليمنيين ومقاومتهم دور أساسي في تحريك الضمير العالمي ليضغط على الفرقاء الخارجيين. ويوما بعد آخر تتصاعد الضغوط السياسية والإنسانية على كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لوقف تزويد السعودية بالسلاح، الذي يستخدم لقصف المدنيين في حرب غير مشروعة. مشكلة واشنطن ولندن أنهما تخلتا تماما عن الاعتبارات الإنسانية، وأصبحتا أكثر اهتماما بالمال النفطي السعودي. هذا المال هو الذي أسال لعاب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ودفعه لزيارة السعودية وباع الموقف السياسي الأمريكي في مقابل مئات المليارات السعودية. وثمة إدراك واسع بأن تلك الزيارة كانت غير مسبوقة من حيث النتائج السيئة. فما إن غادر ترامب الجزيرة العربية بعد أن قدم للرياض دعما سياسيا غير مشروط للرياض، حتى قررت حكومة البحرين الهجوم على منطقة الدراز وقتل العديد من المواطنين وفك الاعتصام أمام منزل الشيخ عيسى قاسم. وفي الوقت نفسه استهدفت السعودية دولة قطر بشكل مفاجئ، بعد أن جرت معها ثلاث حكومات أخرى. وأخيرا شنت القوات السعودية هجوما على المنطقة الشرقية، واستهدفت منطقة العوامية بشكل مباشر، وأحدثت مشكلة إنسانية خطيرة بالدمار الشامل الذي أحدثته لسكان المنطقة. هذا ما حصدته السعودية من نصف تريليون من الدورلارات التي تعهدت بدفعها لأمريكا.
الثاني: تأكيد مصر لمبعوثي وزير الخارجية الأمريكي، أن قطر لم تتراجع عن موقفها الرافض للشروط الثلاثة عشر والمبادئ الستة التي فرضها التحالف الذي يستهدفها بقيادة السعودية. وزير الخارجية المصري، سامح شكري ناقش خلال الاجتماع مع مبعوث وزير الخارجية الأمريكي لأزمة قطر الجنرال المتقاعد أنتوني زيني ونائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الخليج تيموثي ليندركينج، القلق «حيال الدور السلبي الذي تقوم به قطر. بينما قال ليندركينج إن بلاده تأمل بانفراج الأزمة. الأمر الواضح أن صمود قطر أصبح قضية محرجة لكل من الأمريكيين والتحالف الذي تقوده السعودية، خصوصا أن المطالب المفروضة عليها ليست منطقية. السعودية فقدت المبادرة، في الوقت الذي تعاني فيه من أزمة داخل البيت السعودي نفسه، بعد الانقلاب الأبيض الذي قام به محمد بن سلمان على ابن عمه محمد بن نايف. أما مصر فهي الأخرى أصبحت محل انتقادات واسعة؛ بسبب سجلها الأسود في مجال حقوق الإنسان ومصادرة الحريات المدنية العامة، وعجز العسكر عن إدارة البلاد بمنطق عصري يلتزم بالديمقراطية ويحترم حقوق الإنسان.
الثالث: فاجأت السعودية الكثيرين بتوجهها نحو العراق وإيران. وفيما التزمت إيران قدرا من الحذر في الموقف من السعودية، بادرت بغداد لمد الجسور مع الرياض وتم تبادل الزيارات بين الطرفين شملت كلا من رئيس الوزراء العراقي والسيد مقتدى الصدر. وقد أحدث ذلك التقارب أزمة عراقية صامتة، تتجلى مصاديقها في سياسات الحكومة المتأرجحة. وللدبلوماسية العراقية ديناميكيتها الخاصة الخاضعة للضغوط الداخلية والخارجية. وهناك ضغوط شعبية على الحكومة للتريث في التوجه نحو الرياض. وثمة تغير في التوجه السعودي في الأسابيع الأخيرة، أي بعد افتعال الأزمة مع قطر. فجأة شعرت الرياض بالقلق من التقارب القطري مع إيران، بالإضافة لتحالفها مع تركيا فسعت للالتفاف على ذلك بالهرولة نحو العراق وإيران. وجاء موسم الحج ليوفر فرصة لإظهار «حسن النوايا»، فإذا بمسؤولي الحج يستقبلون حجاج البلدين في مطار جدة بالورود، وهو أمر لم يحدث من قبل. فالفترة الزمنية التي تفصل بين فتاوى علماء السعودية بتكفير الإيرانيين والعراقيين واستقبالهم بمطار جدة لا تتجاوز بضعة شهور، فماذا يعني ذلك؟
الرابع: إنه في خضم لعبة شد الحبل بين أمريكا وكوريا الشمالية، والعلاقات غير المستقرة بين ضفتي الأطلسي، أصبحت الإدارة الأمريكية هي الأخرى أمام خيارات صعبة في علاقاتها الخارجية وأولوياتها. فهناك حالة من القلق والرعب في أرجاء العالم خشية اندلاع نزاع مسلح بين الطرفين. المشكلة أن هذا الصراع قد يجر دولا أخرى لذلك النزاع الذي لن تنحصر حدوده بالبلدين. فثمة ضغوط على أمريكا لضبط النفس، ولكن إدارة ترامب التي حوصرت في الداخل بالرفض المتكرر لسياسات ترامب ومواقفه، قد تسعى لصنع نصر عسكري في الخارج يساهم في تقوية رئاسة ترامب المتأرجحة. في ضوء الحقائق المذكورة يتضح مدى الخطر المحدق بالإنسانية. وكان حريا بحكام العرب والمسلمين تجنيب المنطقة وشعوبها مخاطر الخلاف والنزاع، وتوجيهها نحو المزيد من الإنتاج والعطاء. مطلوب إعادة صياغة العقل العربي خصوصا لدى الشباب بعيدا عن الرغبة في تحقيق هدف سياسي هنا أو هناك، مع التركيز على قضايا جمع الأمة وإعادة تأهيلها بعيدا عن أطماع الحكام وسياساتهم.
القدس العربي
1
شارك
التعليقات (1)
شرحبيل
الأربعاء، 16-08-201702:49 ص
استاذ شهابي .....
إذا أردت أن نضع النقاط على الحروف ونقول الحق ولانجامل ولانداور ، فإن السعودية لاتملك أية سياسات ولا تملك أية قدرات ، لأن سياسات الدولة المحترمة هي محصلة الرأي العام ، من سياسيين ومحامين وقضاة وعلماء الطبيعة ومثقفين وكتاب وشعراء واتحادات اجتماعية ومهنية مختلفة وصحافة إعلام حر وعمال ( صناعة ) وفلاحين ( زراعة ) ، والسعودية تفتقر إلى كل ماذكرنا آنفاً ، فمن أين تأتيها السياسات ..؟ نعم السعودية لديها أمراء ينفقون الأموال ويبددون الثروات ويرتكبون الموبقات ويوفرون مئات المليارات من الفائض الاسطوري ليستولي عليها واحد أفاق مثل بوش أو ترامب .. وهذه النشاطات لاتنتج سياسات فهي تتخبط كما في اليمن وسورية والعراق وفلسطين .
تخطىء هذه الأمة إذا تركت مصيرها بيد السعودية ..