يميز الدارسون لـ"ظاهرة" المحافظين الجدد بالولايات المتحدة، بين الآباء المؤسسين الذين بنوا للظاهرة إياها فكرا وعقيدة وإيديولوجيا، وبين مريدين لهم ساروا على هدي نفس الخط، لكنهم عظموا من شأنه بمراكز الدراسات والبحوث، بالإعلام الجماهيري الواسع، كما عبر ممثلون لهم بلغوا أعلى مراتب السلطة بالبيت البيض وبالكونغرس.
وعلى الرغم مما قد يبدو تمايزات ضمنية بين جيلين، كان للأول الفكرة المؤسسة، وللثاني التطويع بأرض الواقع، فإن الغايات والأهداف متطابقة بينهما لدرجة التماهي أحيانا، يخال للمرء معها أن السلوك الأمريكي المترتب عن الفكرة، يكاد يكون تنفيذا حرفيا لدفتر تحملات محدد الآمال والآجال:
+ فهم مقتنعون لدرجة الإيمان المطلق، بأن "العالم يبحث عن قائد، وأن أمريكا هي القائد الحتمي. ولذلك يتعين على الغرب وغيره من العالم، أن يتوحد تحت القيادة الأمريكية لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد"، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانتفاء مبررات الحرب الباردة، و"نهاية التاريخ" بانتصار الديموقراطية الليبيرالية، ومنطق الأسواق الكونية، واندحار ما سوى ذلك من تنظيمات سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها.
وهم مقتنعون، لدرجة تحول الاقتناع لديهم إلى قناعة، بأن "فشل أمريكا في استغلال فرصة قيادتها المنفردة للعالم حاليا لإعادة تشكيله، سيؤدي إلى مزيد من الفوضى" ببعض دول العالم، وإلى التشظي المؤكد بالبلدان المرتكزة نظمها على الدين أو المذهب أو الطائفة أو العشيرة أو القبيلة أو ما سواها.
وهم مقتنعون، لدرجة التطرف في الاقتناع، بأن "قوة أمريكا العسكرية هي أداة رئيسية لنجاحها في قيادة العالم، وأن السلام الحقيقي هو الذي يأتي كنتيجة للانتصار في الحرب. ولذلك يجب استخدام هذه القوة في مشاريع حاسمة وطموحة لصناعة نظام عالمي، تسيطر عليه الولايات المتحدة" دون سواها، دولا كانت أو مجموعات أو تكتلات دول. يقول جورج تينيت، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق: إن أسلحة الدمار الشامل "لم تكن السبب الحقيقي وراء الحرب على العراق، بل إيديولوجيا المحافظين الجدد وإصرارهم على إطاحة النظام هما سبب الحرب... لتكون نقطة تحول في أنظمة الشرق الأوسط".
ويؤكد بمذكراته، أن ريتشارد بيرل (وهو أحد صقور المحافظين الجدد) قال له باليوم التالي لهجمات 11 شتنبر: "على العراق أن يدفع الثمن... هم يتحملون المسؤولية".
وهم مؤمنون، بسياق كل ذلك، بـ"ضرورة الالتزام المطلق بدعم القوة العسكرية الأمريكية، وتحديث وتطوير وتسليح القوات الأمريكية لخدمة أهداف كبرى، مثالية في العالم"...باتت محاربة الإرهاب ومنذ أحداث الحادي عشر من شتنبر، الهدف الأكبر والأسمى ضمنها جميعا.
وهم رافضون بالتالي، لأي تردد أو تخاذل، "باعتبار الواقعية والتردد يمثلان مرضين خطيرين يحولان دون قيادة أمريكا للعالم"، ومن شأنهما تركها فريسة ابتزاز القوى الصاعدة، أو تهديد "الجماعات الإرهابية" المنتشرة.
وعلى هذا الأساس، فلما كانت الفكرة "نبيلة"، والمناخ الدولي العام موات، والمسوغات الكبرى متوفرة (لا سيما المقتنية لطروحات "الحرب على الإرهاب") والأدوات، كل الأدوات، الخشن منها كما الناعم، جاهزة، فإن الطريق بات سالكا بكل المقاييس لإعمال مبدأ "أخلاقية القوة" المروج له على نطاق واسع لتغيير أنظمة الحكم "في كل مكان تريده أمريكا"، لتحقيق ذات التغيير بالقوة العسكرية المباشرة، بشكل أحادي، ودونما اللجوء إلى التردد أو المساومات السياسية (ارتكازا على ما يطلق عليه بفلسفة الأحادية العدوانية)، وعلى خلفية من احتقار للوسائل الدبلوماسية، ومن التجاوز على صلاحيات كل المنظمات الدولية، حتى وإن كانت هيئة الأمم المتحدة ذاتها.
ولما كان كل ذلك مبررا من وجهة النظر "الأخلاقية"، فإن تبني مبدأ "الضربة الاستباقية أو الإجهاضية ضد أية دولة صاعدة، منافسة للنفوذ العالمي لأمريكا"، يصبح أيضا مبررا ومقبولا، لا بل ومشروعا، باسم "حق التدخل السياسي أو العسكري أو الأمني" دون الحاجة لاستشارة أحد حتى وإن كان حليفا استراتيجيا.
لم تأت خطورة طرح المحافظين الجدد من مجرد أفكار تم ترويجها ونفوذ الأمبراطورية يتزايد ويتقوى، بل تحديدا من نجاحهم في اختراق مستوى صنع القرار، وتوجيهه وفق ما يتماشى مع تصوراتهم، وطموحاتهم، والنزوات الشخصية للعديد منهم... لا بل وتشديدهم عليه بأن أي تردد أو ارتخاء في بسط نفوذ الأمبراطورية، سيكون من شأنه هزيمتها وانزواؤها، وفسحا في المجال لغرماء لها متربصين.
يقول وليام كريستول، أحد رواد الجيل الثاني (جيل ما بعد انتهاء الحرب الباردة المتحمس للجوء للقوة) بعدما برع أبوه في قيادة الرعيل الأول، رعيل ما بعد هزيمة فيتنام: "إنه لا مفر أمامنا من إثبات قدرتنا على النجاح في العراق. لأن فشل المشروع الأمريكي في العراق، سيشكل انتكاسة كبرى للمحافظين الجدد. ولكنهم لن يختفوا من المسرح السياسي الأمريكي".
ويقول السيناتور الجمهوري بات روبرتس: "في خوضنا الحرب العالمية ضد الإرهاب، نحتاج لكبح ما يفاقم الغرائز المسيحية. نحتاج إلى نوع من هندسة اجتماعية عالمية، تشعر من خلالها الولايات المتحدة أنها مكلفة ومجبرة على تشجيع الديموقراطية، بالقوة عند الضرورة".
ويبدو، بهذه النقطة، أن إدارة المحافظين الجدد، عندما عمدت إلى تدمير العراق تماما ونهائيا، إنما كانت تراهن على تدمير القائم كي تتسنى لها هندسة القادم... ويبدو لنا هنا أيضا أن إدارة دونالد ترامب الحالية لا تسير على نهج هؤلاء فحسب، بل تعمل على تكريس أطروحاتهم لبناء "الأمبراطورية" التي لم تفلح إدارات ما بعد الحرب الباردة في إقامتها...