تتأكد يوما عن يوم، ولو بشكل أولي، توقعات عدد من المراقبين لما يجري في المنطقة المغاربية، وما ينتظرها مستقبلا، من أنها ستكون دائرةَ توترات وقلاقل في قادم السنين، وأن كبوةَ الإصلاحات التي ألمَّت بمشاريعها، وتزايد الفجوات الاجتماعية، كلُّها عوامل ستُذكي فتيلَ الاحتجاج الاجتماعي، وقد تدفع به إلى ما لا يُعار الانتباه إليه الآن، أو ما قد لا يُحسن تقديرُه من قبل النخب القائدة وصُناع السياسات.
ففي كل من المغرب والجزائر وتونس ثمة ما يجمع هذه البلدان الثلاثة ويُعرِّضُها لهزات اجتماعية، على الرغم من اختلاف السياقات الوطنية، وتباين درجات الإصلاحات في نظمها السياسية والاقتصادية. ففي المغرب هناك نفَس إصلاحي، يكاد يكون مستمرا وبدون انقطاع منذ ثمانينيات القرن الماضي وتحديدا منذ عُشريته الأخيرة، وقد تزايدت وتيرتُه خلال الألفية الجديدة، ومع ذلك لم يكن في مقدرته ردم الفجوات العميقة الناجمة عن عقود من التنمية غير المتوازنة ولا العادلة.
والأمر نفسه حاصل في تونس، التي وسمها الرئيس الفرنسي الأسبق " جاك شيراك" ب " المعجزة التونسية"Miracle Tunisien، وقد لاحظ العالم كيف كشف الحراك الاجتماعي عن اختلالات فظيعة في المجتمع التونسي كانت أصلا سببا في سقوط النظام) 14 يناير/كانون الثاني2011 (، وانطلاق دينامية الانتقال الديمقراطي.
أما في الجزائر، فقد كان مجتمعُها سبَّاقا إلى إدانة الظلم الاجتماعي، والمطالبة برفع سقف الحريات منذ خريف 1988، ومرورا بما سُمي لدى الجزائريين " العُشرية السوداء"، في إشارة إلى أزمة تسعينيات القرن الماضي. نحن إذن أمام بلدان مُوحَّدة، رغم اختلافاتها، في وجود فجوات اجتماعية عزَّ على السياسات الوطنية في مجال التنمية ردمها وتجاوزها إيجابيا، بما يسمح للمجتمعات في هذه البلدان بالشعور بالأمان، والتكافؤ، وتقاسم الخيرات والثروات.
ليس قوسُ الاحتجاجات في البلاد المغاربية محض صُدفة، أو من فعل فاعل خارجي، إنه نتاج طبيعي لنموذج تنموي اعتمدته الحكومات وصناع القرار السياسي منذ استقلال هذه البلدان، وهو أيضا محصلة لغياب توافق إرادي، مدروس، حول مشروع البناء الوطني. لذلك، وبغض النظر عن تباين الخطابات بين الدول المغاربية الثلاث، فقد أفضت نتائج نصف قرن من الحكم إلى تعميق الشروخ التي خلفها الاستعمار في جسم المجتمعات ونسيجها العام، بين المناطق والجهات الترابية، وبين الفئات والشرائح الاجتماعية، وبين البوادي والحواضر، وداخل الحواضر والمدن ذاتها، وبين مكونات روافد الهوية الوطنية والاجتماعية، وحتى اللسان نفسه، بحسبه الوسيلة الرئيسة للتواصل، لم يسلم هو الآخر، حيث طاله التشقّق، وتَعدَّدَ الناطقُون به.. إنها صورة فسيفسائية عن بلاد مغاربية تزداد يوما عن يوم في التباين والتمايز، أكثر من اقترابها من التماسك والانسجام.
لنتأمل في عينة من هذه الاختلالات، ولعلها الأكثر مسؤولية عن اندلاع الاحتجاجات وديمومتها في الزمن، ونقصد بذلك الاختلالات الترابية وضعف العدالة المجالية. ففي الدول الثلاث ثمة ظاهرة عدم وجود توزيع متكافئ وعادل للتراب، أي للمجال بحسبه إطارا جغرافيا للعيش المشترك، وللخيرات والثروات، باعتبارها ملكا وطنيا مشتركا. ففي المغرب، حيث قسّمه الاستعمار إلى " مغرب نافع"، و" مغرب غير نافع"، وأقام حواجز تنموية واجتماعية بين مغربين في مغرب واحد، لم تستطع خمسون سنة من التنمية، من مسح هذا التقسيم نهائيا، وإعادة بناء مغرب موحد ومتماسك ومنسجم بشكل لا رجعة فيه، بل بقيت الاختلالات المجالية مستمرة، واستمر شعور الناس في ما اسماه الاستعمار " المغرب غير النافع" موسوما بالغُبن والإجحاف في حقهم، على الرغم من كل الجهود المبذولة من أجل تعميق الاندماج والمصالحة الوطنيتين.
ولهذا، ظلت الاحتجاجات الاجتماعية شبه مستمرة في أكثر من منطقة من مناطق المغرب، لعل أكثرها حدة خلال هذا العام المنطقة الشمالية، ومدينة الحسيمة تحديدا. ونجد الظاهرة نفسها في تونس، حيث تتصدر ولايات الجنوب والوسط موجات الاحتجاجات، بل كانت في أصل الحراك الذي قاد إلى إسقاط النظام مستهل العام 2011.بل إنه ما زال مستمرا حتى الآن، على الرغم من مرور ست سنوات على بداية التغيير الديمقراطي في تونس. ولا يبدو في الزمن المنظور أن ثمة مؤشرات دالة على قدرة الحكومات المتعاقبة في تونس على ردم فجوات غياب العدالة المجالية.
أما في الجزائر، حيث تتحلق الحياة حول الساحل بدرجة أساسية على الرغم من المساحة الجغرافية الشاسعة لهذا البلد، فقد ظلت المدنُ غير المحاذية للسواحل بعيدة عن سياسات التنمية وثمارها، مما خلق شعورا بالغُبن وعدم العدالة، وقاد رأسا إلى الاحتجاج. ثم هناك متغير آخر لا نجد نظيرا له في كل من المغرب وتونس، يتعلق بقدرة النخبة الحاكمة في الجزائر على إعادة توزيع الريع النفطي، بما يسمح لها بامتصاص الغضب وشراء السلم الاجتماعي. لذلك، وبعد التراجع المُهول لعائدات النفط خلال السنوات الأخيرة، ازداد إيقاع الاحتجاج الاجتماعي، لاسيما لدى الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية الأكثر تضررا وإحساسا بالإقصاء والهشاشة.
سيستمر قوس الاحتجاجات الاجتماعية في بلاد المغرب مفتوحا ومهددا بالخسائر، إذا لم يقع التصدي له بما يلزم من الجدية، والمسؤولية الوطنية، والذكاء الخلاق والشجاع في ابتكار سياسات تنفع البلاد والعباد، وفي صدارتها حماية المال العام من الهدر والفساد والإفساد، وبالموازاة استثماره في ما يرجع بالنفع العام على الساكنة، لاسيما في المناطق المتضررة من النموذج غير المتكافئ ولا العادل للتنمية خلال العقود المنصرمة.. إنه أفق صعب وشاق، يستلزم كثيرا من الشجاعة والصبر، غير أنه الأفق المنقذ والمجنِّب للمخاطر المنظورة وغير المنظورة للمنطقة برمتها.