لولا أن (لو) تفتح عمل الشيطان، لقلت لولا الشيخ يوسف القرضاوي وقناة "الجزيرة" لفشلت ثورة يناير، ويبدو أنهما، "العالم" و"القناة"، يدفعان الآن ثمن هذا الموقف، من قبل الأذرع الصهيونية في المنطقة، التي احتشدت لتضع عالماً بحجم "القرضاوي" على قوائم الإرهاب التي أعدتها، كما احتشدت لتطالب بإغلاق قناة "الجزيرة" مقابل رفع الحصار على النحو الذي ذكره حاكم الشارقة، مع كونه ليس له في العير ولا في النفير!
لقد ابُتلي الثوار في موقعة الجمل وزلزلوا زلزالا عظيماً، عندما كانت النية تتجه إلى سحقهم وتسويتهم بالأرض في هذا اليوم، وكان قد تم إغلاق مكتب "الجزيرة" في مصر، لكن كاميرا تابعة لها تسللت إلى أعلى بناية تطل على الميدان، ونقلت ما يراد بالميدان والثوار بالصوت والصورة، فمدرعات الجيش التي ترابط على مداخل ميدان التحرير، تتحرك لتفسح المجال للخيل، والبغال، والحمير، والشبيحة، فدخلوا للفتك بالثوار، وأدركنا ساعتها أن الثورة انتهت، وأن مبارك مستمر بالحكم، لكن الصورة التي نقلت للعالم كله عبر شاشة المحطة القطرية، كشفت حجم المؤامرة، ثم كان البيان الأروع في هذا اليوم، الذي ألقاه الشيخ القرضاوي، والذي علمت أنه كان مريضاً لكن وإحساسا منه بالمسؤولية الدينية والوطنية تحامل على نفسه، وذهب إلى الأستوديو في "الجزيرة"، ليعلن أن الذهاب إلى الميدان في هذا اليوم هو فرض عين على كل قادر عليه، لحماية الثوار من الفتك بهم.
ولأن مصر كانت خاضعة لقرار حظر التجول، فلم تكن هناك سيارات تنقل الناس إلى الميدان، فقد جاءوا من كل فج سيراً على الأقدام، بعد هذه الدعوة التي ترتقي إلى مرتبة الفتوى الدينية من أكبر رمز ديني في العالم الإسلامي. وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، غادرت الميدان إلى منزلي وأنا مطمئن ويتملكني يقين بأننا لن نغلب بعد اليوم من قلة، ورغم أنني سرت على الأقدام كما هي العادة في كل يوم فقد شعرت بالأمان، والآلاف في طريقهم للميدان، وكأننا في "عز الظهر".
ولهذا كان طبيعياً، أن يكون الشيخ القرضاوي هو خطيب الجمعة بميدان التحرير بعد تنحي مبارك، وفي جمعة النصر، فلم تكن صلاة عادية، ولكنه كان يوما تاريخياً، فقد اكتملت مليونية في هذا اليوم بالميدان، إقراراً لفضل الرجل على الثورة، وانحيازه لها، في وقت كانت فيه العمائم الكبرى مع مبارك، وكانت الفتوى بتحريم الخروج عليه "وإن أكل مالك وجلد ظهرك"، فكان انحياز أكبر عمامة في المذهب السني، تبطل ما قالوا وتجعل منه أقوال سحرة ولا يفلح الساحر حيث أتى!
"القرضاوي" – والألقاب كما المقامات محفوظة – يدفع الآن ثمن هذا الموقف، كما يدفع ثمن انحيازه للربيع العربي بشكل عام، فقد ألقى بكل ثقله الفقهي لصالح الثورة، فجعل ما قيل تحريما لها، وتجريما للخروج على الحاكم، هشيماً تذروه الرياح!
ومن هنا فقد انطلق سفهاء العالم العربي، يضعونه في قائمة الإرهاب، ويغرون به غلمانهم، ومن يمثلون أذرعهم الإعلامية ليتطاولوا على مقامه، في زمن "أكلت فيه الماعز جلالها"، و"الجلال" بكسر الجيم هو غطاء المواشي الذي يقيها شر البرد، انظر عندما تستدير الماعز برقبتها حتى تتمكن من أكل غطائها؟!.. وهو مثل يعد من جملة الأمثال الشعبية التي تتحدث عن غرائب آخر الزمان!
أن يتجرأ "الغلمان"، فيضعوا الشيخ يوسف القرضاوي على قائمة الإرهاب، فهذا من عجائب الزمن، ليس فقط لقيمة الشيخ ورمزيته، وليس لتاريخه وقدره، ولكن لأنه رمز الاعتدال والوسطية، فعندما يُذكر إسلام السماحة وتُذكر سماحة الإسلام، فالأنظار تلتفت إليه، ولا أظنها يمكن أن تخطئ مرة وتستدير ناحية ابن باز وابن عثيمين، متجاهلة "القرضاوي" أو واضعة إياه في مرتبة متأخرة، مع خالص احترامي للجميع. وعندما يكون الحديث عن الفقه وشؤونه، ومن يمثل فقه الاستنارة في هذا الزمان، فإن المعني بذلك سيكون هو.
فالشيخ ينبذ التطرف، وقضى حياته محارباً الأفكار المتشددة، التي ربما تكون نتاج محنة تعرض لها أصحابها على يد الأنظمة البوليسية التي سلمها الاستعمار الحكم من بعده، فله كتابات عظيمة الأثر في الرد على "سيد قطب"، وغيره، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بالكثير من المؤلفات، التي ربما بدأت بكتابه "الحلال والحرام في الإسلام"، الذي دشن فيه لفقه الاستنارة، وفي وقت كان السائد والمحتفي به هو الفقه المتشدد المنغلق، ولم يكن غريباً أن يوصف الكتاب من قبل المتشددين بـ "الحلال والحلال في الإسلام"!
ومن عجب أن ما تسمى بدائرة الثقافة في العربية السعودية قررت مصادرة مجمل مؤلفاته في الأسواق السعودية والتي تتجاوز المئة مؤلف، بعد هذا القرار "البزراميط" بوضع الشيخ على قائمة الإرهاب، دون أن تثبت عليه ولو في سطر واحد من كل هذه الكتب، ما يبرر المصادرة، أو يدعم القرار الهزلي بوضعه على قائمة الإرهاب، في حين أن مدرسته لم يتخرج فيها إرهابي واحد، ولم يحدث أن قال داعشي، أو مسلح، أنه تلميذ للشيخ "القرضاوي"، في حين أننا نعلم من أين جاء الدواعش، فهم من مدرسة يرفضها الشيخ ويحاربها، ومؤلفاته تمثل مدفعية ثقيلة في مواجهتها!
ربما يعز عليهم أن "يوسف القرضاوي"، لم يكن يوماً من شيوخ السلطان، ولم يكن في أي مرحلة في حياته، من الذين يزينون لأي حاكم سوء عمله ليراه حسناً، وغيره يفعل، ولم يكن يوماً منحازاً للاستبداد "وإن أكل مالك وجلد ظهرك"، بل كان دائماً صوت الشموخ، والتعبير عن الاعتزاز بالنفس، وقد كانت الخطوط ممتدة معه، وبأقل قدر من التنازل كان يمكن أن يكون في أعلى المواقع الرسمية الكبرى، وقد حاول نظام مبارك معه ذلك وفشل، وكان رسوله في ذلك وزير أوقافه محمد على محجوب.
بيد أن النفوس الكبيرة، لا تشغلها هذه المناصب مهما علت، فتفرغ الشيخ لمشروعه، ليصبح الأغزر إنتاجاً، والأعز نفرا، ولم تكن غزارة الإنتاج على حساب القيمة، فجملة هذا الإنتاج تؤكد خطه الفكري المستقيم، وتدشن لمدرسة فقهية لعالم عاش زمانه ولم ينعزل عنه في صومعته، وإذا كان الفقه خسر المصري "الليث بن سعد"، حيث لم يوجد له تلاميذ يحافظون عليه، فإن الكتابة ستحافظ على "فقه القرضاوي" لتتوارثه الأجيال إلى قيام الساعة!
وقطعا لن يذكر التاريخ أن هناك من وضع هذا العالم في قائمة الإرهاب، وربما عندما يشير إليهم باحث في رسالة أو أطروحة علمية، سيمثل هذا جديداً في البحث يحتم الاحتفاء به؛ عندما يقال إن ثلاث دول تنتمي - فيما نعلم - للعالم العربي، وتنتمي – فيما لا نعلم - للمذهب السني، وضعته على لائحة للإرهاب وكأنه من قتل الملك فيصل، والرئيس السادات في وقت واحد!
سيبقى الشيخ القرضاوي رمزاً بعلمه وفقهه وانحيازه للثورات العربية.. أما خصومه فسيمر عليهم التاريخ بأحذيته فلا يكونون بعدها شيئاً مذكورا.
وكما قال الرسول من قبل عن سعد بن أبي وقاص: "سعد خالي فليرني امرؤ خاله" نقولها: "القرضاوي شيخنا فليرني امرؤ شيخه"، فربما كانوا يبحثون عن شيخهم في معبد بوذا الذي شيدوه في بلادهم!
ونلفت انتباههم بأن الطريق من هنا.. فالشيخ في قطر.