لأول مرة يلتقي يومان في التاريخ؛ يوم يختص بالعاشر من رمضان وآخر يتعلق بالخامس من يونيو؛ الأول يعبر عن الانتصار، والثاني يعبر عن هزيمة سميت بالنكسة، وكأن تلك المفارقة تعني لشعوب العرب أمرا مهما، أمر يتعلق بنكسة لهزيمة كبرى طالت مصر والعرب مر عليها خمسون عاما، وحرب أكتوبر التي توافقت آنذاك مع العاشر من رمضان التي تشير إلى انتصار ليس بالهين في حرب 1973، يبرز قدرة هذه الشعوب على النصر، وسواء كنا نتحدث عن نصر أو هزيمة فإن لهذا الأمر سننا ترتبط به وقوانين وشروطا لتحقيق كل منهما، إن حال النصر والهزيمة يعبران بحق عن أحوال الناس، وعن أحوال المجتمعات، وعن أحوال نظم الحكم التي تحكم وتتحكم، فللنصر نواميس وسنن وللهزيمة أحكام وقوانين.
وفي حقيقة الأمر فإن استدعاء التاريخين وتصادفهما في يوم واحد وكأنه يلفت بلاد العرب إلى الحالين وقدرة هؤلاء على العمل على طريق النصر أو السير إلى حال الهزيمة، ذلك أن أخطر شيء ليس في حدوث الهزيمة في ذاتها ولكن في استمرار الذهنية والعقلية التي تحكم حال الهزيمة وتؤدي إلى استمرارها.
استيقظنا في صبيحة يوم الخامس من يونيو على حال يؤكد استمرار نكباتنا، حتى إن البعض صار يتحدث عن النكبة وصار الآخر يكتب عن النكبة مجددا، وهذا ما جعل أحد الكتاب أن يكتب كتابا سماه "علم النكبات العربية" من تكرار تلك النكبات ومن استدعائها ومن حال تتعلق بسنن الضعف والهوان والوهن التي تتحكم في منطقة العرب وما سمي بالشرق الأوسط، بدا هذا الاستدعاء للنكبات حينما استيقظنا على مشهد خطير، ثلاث دول من دول مجلس التعاون الخليجي تقع على رأسها "السعودية" وتمثل "الإمارات" و"البحرين" تكملة لهذا المثلث تبادر بقطع علاقاتها بدولة أخرى في مجلس التعاون الخليجي وهي "قطر".
المشهد أكثر تعقيدا من تلك "البروفة" السابقة (التي حدثت في العام 2014) حينما قامت نفس الدول الثلاث بسحب سفرائها والتهديد بقطع العلاقات، هذه المرة الأمر لم يقتصر على مجرد إعلان قطع العلاقات ولكن اتخذت الدول الثلاث ما من شأنه أن يشير إلى مقدمات حالة الحرب من إعلان حصار وإغلاق حدود برية ومائية وجوية، ومطالبة الرعايا بالعودة وإمهال مواطني تلك الدول بمغادرة بلادهم في مدة زمنية هي 14 يوما، لتشكل في حقيقة الأمر إعلانا بحرب، حرب بلا ميدان يستأسد هؤلاء على دولة صغيرة، هذه الدولة تشاركهم في عاصفة الحزم، وفي تحالف لمحاربة الإرهاب ومع ذلك فإنهم يتهمونها بمساعدة الإرهاب والإرهابيين.
بدا هذا المشهد ومن قبله مشهد آخر، مشهد بنيامين نتنياهو يحتفل بالذكرى الخمسين لهزيمة حزيران وانتصاره على العرب، ينتهك المسجد الأقصى، يتجمع هو ووزراؤه أمام حائط البراق، ويعقد اجتماعا بهم في واحد من الأنفاق تحت المسجد الأقصى، ينتهك الأقصى والقدس، يثبت رمزيا أن القدس هي عاصمة إسرائيل مؤكدا على أنها ستكون إلى الأبد عاصمة لإسرائيل. من المؤسف حقا أن لا يحرك أحد من بلاد العرب ساكنا، ولا حتى من بلاد المسلمين، انتهاك خطير يمر من جانب الكيان الصهيوني ولا أحد يتحدث ولو حتى شجبا أو همسا كاحتجاج على انتهاك المسجد الأقصى وبيت المقدس.
تُرى ماذا يختار العرب في كل مرة؟، أيا من التاريخين اختاروا؟، ليس تاريخ الانتصار الذي يتعلق بالعاشر من رمضان ولا بإعداداته ولا بإمكاناته وقدراته، السعودية إلى جانب الدول العربية الأخرى في هذا الوقت اتخذت موقفا عظيما يتعلق باستخدام البترول كسلاح قادت هذه المعركة ضمن انتصار كبير كان له من أشكال عدة تؤكد على اعتصام وتكاتف، رغم أن هذه الدول كان ما كان بينها وبين مصر من تنازع وتناوش، تناسى هؤلاء الخلافات، تقدم كل منهم ليقوم بدور في صناعة الانتصار في رمضان، إنها سنن الاعتصام والنصر.
ولكن اختار هؤلاء في ذات اليوم مشهد الهزيمة ونفسيتها وعقلية الفرقة، بدا لهؤلاء أن يصنعوا "نكبة جديدة" في الخامس من يونيو 2017 بعد خمسين عاما في مسلسل نكبات العرب، يقومون بكل أمر يتعلق بإعلان العداء لدولة صغيرة، ولكل أسبابه ومصالحه في اتخاذ موقف يتعلق بمحاصرة تلك الدولة، لا يهم في النهاية عن ماذا سيسفر هذا الأمر وهذ التصرف، وأن التصرفات والسياسات مازالت تؤشر على أننا نستهلك نفسية الهزيمة ونعيد تدويرها في أشكال جديدة، تدق طبول الخلاف والنزاع والشروع في حرب قد لا تتخذ شكل الحرب التقليدية ولكنها تطرق أبوابها وتسلك مسالكها من أقرب طريق وعلى غرة.
هذا المشهد الذي آل إلى إعلان حرب وكأنه "عدوان ثلاثي" بدأت وقائعه بفرية تصريحات مفبركة على لسان أمير قطر وتجهيزات مسبقة لإدانة قطر تتحدث عن اختراق وكالة أنبائها، ولم تمض ساعات إلا وفي ذات الأمر سربت من بريد إلكتروني لسفير الإمارات المتنفذ في الولايات المتحدة الأمريكية تسريبات خطيرة، الأمر يزداد تعقيدا واتهامات متبادلة على أشدها، وبدأت حروب الكلام واللسان، وكما تقول العرب إن حروب اللسان تسبق حروب السنان، وتفاقم الأمر واستيقظنا على نكبة جديدة.. فرقة ونزاع، قطع علاقات وحصار، طبول تدق كأنها طبول الحرب والبعض ينادي من بعيد "أليس فيكم رجل رشيد"!، ليعبر عن معنى الاعتصام والاحتواء والحوار الذي يفرضه الجوار، ولكنها عقلية الفرقة والهزيمة تلعب أدوارها وأناس يخططون لمصالح آنية وأنانية، لا يعتبرون العواقب ولا يقدرون النتائج.
إنه ذلك المشهد الذي اعتدناه.. مشهد النكبات يتحرك في جوف هذه الأمة حتى في ذلك الكيان الذي كنا نعتبره من علامات التماسك في العالم العربي وهو دول مجلس التعاون الخليجي الذي كان يقدم نموذجا في ظل تفكك عرى اتحادات وتحالفات ومجالس عربية، واستمر ذلك المجلس ليؤشر على مصالح استراتيجية واحدة، وعلى منطقة جغرافية واحدة، وعلى نسيج اجتماعي ومجتمعي متماثل أو إن شئت الدقة متشابه، فماذا استجد في الأمر؟!.
استجد في الأمر ما أشرنا إلى تكونه وأسميناه في إحدى المقالات "بشرخ أوسخ جديد" تعبر عنه إحدى الدول على لسان السفير الذي سرب له أن دولته تسهم في صناعة شرق أوسط جديد، هذا "الشرخ الأوسخ" لا تستفيد منه إلا إسرائيل بالأساس، كيان استيطاني غريب صار هو القريب، والبلد القريب صار هو البعيد الغريب، ومن ثم فإننا لا نستغرب بحال تلك التصريحات التي أتت من سياسيين صهاينة سابقين وحاليين "أن العرب لم يعودوا يقفون ضد إسرائيل، ولكن العرب الآن تحولوا إلى أن يقفوا ضد بعضهم البعض"، و"أن إسرائيل لم تعد عدوا".
هذه هي القضية، قضية اختيار الهزيمة والتسليم بها لنكون في صف واحد مع الكيان الصهيوني، من المؤسف حقا أن نعادي ما يعاديه ذلك الكيان، وأن نحالف ما يحالفه هذا الكيان، ونعادي بعضنا بعضا بمعايير ذلك الكيان، مال هؤلاء يقومون بكل ذلك وفي ذاكرتهم ثورات شعوب أجهضت، ثورات مضادة حاصرت تلك الثورات الحقيقية، والتفت عليها وهي الآن تقود معركة في مواجهة تلك الثورات ومعاقبة كل عنوان يتعلق بالمقاومة، مقاومة الشعوب لمستبد، أو مقاومة الشعوب لمحتل.
ومن هنا وعلى ذكر الانقلابات انضم لهؤلاء الثلاثي طرف رابع تمثل في منقلب مصر، "مصر الانقلاب"، ليحكم الحلقة في مواجهة الثورات وفي مواجهة أي مقاومة لمحتل، هل يمكننا في النهاية أن نشير إلى هذا الاختيار في الزمان الذي اجتمع فيه يومان، حينما صادف يوم الهزيمة والانكسار يوم الانتصار، فاخترنا الهزيمة بأفعالنا وبكل اقتدار وسرنا على طريق نكبة جديدة على طريق عقلية الوهن.