يطرح الصعود الكبير للشعبوية السياسية وقوى اليمين المتطرف في أمريكا وأوروبا في السنتين الأخيرتين، ووصولها أحيانا إلى موقع القرار مسألة قدرة مثل هذه الظواهر على تنفيذ وعودها، وإحداث تغييرات جذرية في الدول والمجتمعات الديمقراطية. وبانتظار نتائج الانتخابات الفرنسية المفصلية، ننظر إلى الجانب الغربي من الأطلسي، حيث أنهى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المئة يومٍ الأولى على تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، وكالعادة في أمريكا والديمقراطيات الأخرى، فقد قام الرأي العام والسياسيون والمتابعون بتقييم هذه الفترة القصيرة والمثيرة من عمر الرئاسة الأمريكية، وقاموا برصد الوعود الانتخابية، وعرض التقييمات المختلفة التي حظيت بتغطية واسعة في مختلف أشكال الإعلام الحديث والتقليدي.
ولا نسعى هنا للحكم سلبا أو إيجابا على المئة يوم الأولى من حكم الرئيس ترامب، ولكن نحاول أن نلتقط بعض الإشارات حول قدرة الخطاب الشعبوي والطروحات المغايرة للتيار العام على الصمود وإحداث تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية جذرية في الدول التي تمتلك تقاليد ديمقراطية راسخة، ومدى مقدرة مؤسسات الدولة من قضاء وإعلام وحكم محلي ومجالس تشريعية ومؤسسات وقوى المجتمع، في كبح جماح التوجهات المغالية أو المتسرعة للظاهرة الشعوبية المتطرفة.
سجل المتابعون تراجع ترامب عن كثير من وعوده الانتخابية الصارخة في الأيام المئة الأولى، ففي مجال العلاقات الدولية خفت الحديث عن قضايا كانت في لب حملته الانتخابية مثل: "سور المكسيك العظيم"، و"إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي مع إيران"، و"الرجوع عن تطبيع العلاقات مع كوبا"، و"نقل السفارة إلى القدس". وفي المجال الاقتصادي تم التخفيف من مدى "المراجعة لاتفاقية النافتا" والتوقف عن "معاقبة الصين بشأن العملة"، وغير ذلك من قضايا داخلية وخارجية طرحت على نحو مثير وتم التراجع عنها أو إفراغها من مضمونها الجامح، ما يثير قدرا كبيرا من الشك حول إمكانية تطبيق المشاريع الشعوبية، أو ذات الطابع المتطرف بالسرعة والسهولة التي يأمل بها أصحابها، ويقدمونها في وعودهم لجمهورهم على أنها أمور يمكن تحقيقها بغير كثير عناء، حتى إن ترامب نفسه اعترف بالصعوبات التي يواجهها، وقال ببساطة: "لقد كنت أحسب أن الأمور ستكون أسهل".
أيدت هذه التراجعات ما ذهب إليه الكثيرون من أن القوى السياسية والأفراد يصبحون أكثر ميلا للاعتدال والوسطية عندما يصلون إلى السلطة، سواء من ناحية عقلنة الخطاب أو الممارسات، خصوصا حينما يتعاملون مع العالم المتشابك من حولهم، عندها يصبح الخطاب القومي الانعزالي عبئا وعقبة في طريق حل المشاكل المزمنة أو العارضة، فيتم الانتقال التدريجي من الخطاب الشعبوي المتطرف إلى الواقعية السياسية.
ورغم الاعتراف على نطاق واسع بأن الناخبين في الغرب عبروا باختيارهم اليمين المتطرف عما هو أكثر من الاحتجاج على المؤسسة السياسية والنظام، إلا أن هنالك دعوات متعددة لمد جسور أكبر بين الجماعات السياسية، ويرى هؤلاء أن الشعبوية الحالية ليست أكثر من موجة عابرة تعبّر عن غضب سيبلغ مداه ثم يهدأ، فغرب ما بعد الحرب العالمية الثانية تشكل على أساس مناهضة الفاشية، ولا يمكن أن يمضي بعيدا -بحسب هؤلاء- في يمينيته، فهو غير معتاد على مثل هذا اللون من الحياة، فاليمين المتطرف ما يزال يثير فزع شريحة واسعة من الناس التي لن تسمح لأي كان بسلبها المكتسبات التي حققتها بعد الحرب.
وجد اليمين المتطرف في المزاج السلبي تجاه سياسات العولمة وما آلت إليه تربة خصبة لخطابه الشعبوي والعنصري، كما استغل فشل أحزاب التيار العام في حل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليست الهجرة إلا واحدة منها، فقدم نفسه بدور المنقذ الذي سيعيد للدول حدودها وللأمم هويتها وللشباب وظائفهم المهاجرة، لكنه سرعان ما اصطدم بحقيقة أن هذه المشاكل أعقد من أن يحلها من خلال أمر تنفيذي أو تشدد هنا وتعسف هناك.
إن مئة يوم من حكم الولايات المتحدة هي مدة غير كافية للحكم على إمكانية تنفيذ وعود الرئيس، أو فيما إذا كان الرئيس سيستمر في خفض حدة خطابه وسقف توقعاته، ولكنها قدمت مؤشرات واضحة على البون الشاسع بين الاتّكاء على الخطاب الغرائزي المتطرف، وبين وضعه على محك الواقع من أجل إيجاد حلول ملموسة للمشاكل المزمنة.
ستقدم الأيام القادمة من وجود اليمين المتطرف في السلطة الأجوبة عن كثير من الأسئلة، وفيما إذا ما سيوافق حساب الحقل حساب البيدر.
الغد الأردنية
1
شارك
التعليقات (1)
عبدالله العثامنه
السبت، 06-05-201706:06 ص
في الغرب: تصاعد اليمين المتطرّف؛ تطرّف اليمين المحافظ.