لم يحرز الحزبان التقليديان بفرنسا من اليسار، ممثلا بالحزب الاشتراكي، واليمين التقليدي، ممثلا لحزب الجمهوريين، إلا نسبة 26 بالمائة من الأصوات المعبر عنها في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية ليوم 23 أبريل (9 ملايين ونصف مليون صوت) مقابل 66 بالمائة (23 مليون صوت) لثلاثة مرشحين، اثنان منهما لا ينتميان لأي حزب منظم وأخرى زعيمة يمين متطرف أقرب ما يكون للطائفة منه لحزب.
إنه إعلان رسمي على وفاة الأحزاب التقليدية بفرنسا وهو ما ظهرت إرهاصاته الأولى في دول أخرى مع حركة الخمس نجوم بإيطاليا وحركة بوديموس بإسبانيا بل وفوز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية "ضدا" على توجهات "الجهاز الحزبي" للجمهوريين.
لأول مرة في تاريخ السياسة الفرنسية يعجز اليمين التقليدي عن التواجد بالدور الثاني من الانتخابات الرئاسية بعد أن جرب اليسار الأمر ذاته قبل خمس عشرة سنة خلت حين تمكن جان ماري لوبن، والد مارين لوبن، من تحقيق مفاجأة من العيار الثقيل بإقصائه رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق الاشتراكي ليونيل جوسبان في انتخابات 2002. يومها، توحدت الأحزاب التقليدية يمينها ويسارها وراء جاك شيراك ليفوز بولاية ثانية بأكثر من 80 بالمائة من الأصوات في إطار "جبهة جمهورية" تلاشت معالمها في انتخابات 2017.
كان النقاش وقتها قد ارتفع مناديا بتخليق الحياة الحزبية وتجويد الأداء السياسي لقطع الطريق أمام اليمين المتطرف، لكن الأمر كان مجرد صيحات في واد، فالتوجه اليميني ليس حكرا على باريس بل شمل ولا يزال العواصم الغربية كلها.
ورغم التحذيرات المتواصلة من النخبة التقليدية لقطع الطريق أمام الجبهة الوطنية فقد تحول "الحزب"/الطائفة إلى لاعب أساسي في الساحة السياسية الفرنسية، ولولا نظامها الانتخابي المعتمد على نظام الاقتراع على دورتين، لتمكن من تحقيق حضور وازن في البلديات والبرلمان. أصبح أكيدا أن ماكرون سيصبح رئيسا لفرنسا لكن وصول اليمين "المتطرف" للحكم مسألة وقت ليس إلا, وهو ما قد يتحقق على يد الحفيدة ماريون لوبن البديل المرتقب لخالتها مارين.
لقد أثبتت الانتخابات الفرنسية في دورتها الأولى أن الشأن السياسي لا يزال مثيرا لاهتمام المواطنين بل إن الشباب صاروا يشكلون قوة انتخابية ضاربة لا تجد في التنظيمات التقليدية معبرا عن رؤيتها ونظرتها للحاضر والمستقبل. والنتيجة أنه نحا جزء كبير إلى الاحتماء بالهوية الوطنية والدعوة للانغلاق مقابل جزء أكبر رأى في إيمانويل ماكرون رمزا للتجديد في ظل "الاستمرارية" كشاب لم يتجاوز الأربعين عاما، وفي جان لوك ميلانشون محرضا على التغيير الشامل والثورة على الوضع السائد منذ إعلان الجمهورية الخامسة بما تمثله قوانينها من كوابح أمام التغيير.
لوبن زعيمة "طائفة" اليمين المتطرف الذي أصبح اليوم المعبر الحقيقي عن أدبيات اليمين، وميلانشون ممثلا لليسار الجذري وماكرون رجل التوافق والـ"بين بين"، ثلاث زعامات تؤشر اليوم على طي صفحة مضت من تاريخ الجمهورية الخامسة، ميزتها الأساسية تفكك مرتقب لليمين التقليدي ووفاة سريرية للحزب الاشتراكي بعد القضاء على غريمه الحزب الشيوعي منذ سنوات. نتيجة تؤكد أن الحزبية التي ظلت ملتصقة بالصراع الأيديولوجي لسنوات الحرب الباردة صارت متجاوزة في طرق اشتغالها ومكبلة الإرادة بفعل شيخوخة زعاماتها وانتشار الفساد بين قياداتها مع استحالة انبثاق أجيال جديدة لممارسة الحكم داخلها.
من اليسير تفهم تقدم ممثلة اليمين "المتطرف" والصعود المستدام لليسار الجذري الذي حقق زيادة بنسبة 8 بالمائة بين دورتي 2012 و2017، لكن حالة ماكرون تستدعي كثيرا من التأمل في بلد "تقليدي" يقدس المؤسسات كفرنسا. قبل أشهر فقط أنشأ الرجل حركته السياسية وانطلق في تحد أشبه ما يكون مستحيلا قبل أن يحقق ما عجز عنه آخرون قضوا عقودا من الانخراط في العمل السياسي.
زاده كان معرفة حقيقية بتململ كثير من الفرنسيين وسخطهم تجاه طبقة سياسية شائخة زادتها الفضائح المالية إضعافا، وفهم واقعي لحالة يسار تقليدي كسرته سنوات حكم فاشلة وصراعات قيادات أكدتها الأيام بالطعنات والخيانات المتوالية التي تلقاها مرشح الحزب الاشتراكي بونوا هامون طوال الحملة الانتخابية التي انتهت بنتيجة لم يسبق للحزب أن اندحر إليها. والأهم، إحساس بوصول التقاطب الحزبي مداه بشكل يصبح معه تقديم بديل متوازن يجمع بين الحفاظ على المكتسبات وتحقيق العدالة الاجتماعية واتخاذ الإجراءات اللازمة لإنقاذ النموذج الفرنسي وتطويره، بعيدا عن المسلمات التي حكمت الساحة السياسية لعقود، ضرورة لا محيد عنها.
ليست فرنسا المثال الوحيد لمأزق تجديد النخب وتطوير آليات العمل والتواصل، ففي ألمانيا تستعد المستشارة أنجيلا ميركل للترشح لفترة ولاية رابعة، بما يشبه التمديد المألوف عربيا للزعامات التاريخية وكأن ألمانيا أصبحت عاجزة عن تقديم منافس قادر على حكم البلاد. وفي إسبانيا تمسك راخوي برئاسة الحكومة بالرغم من كل الفضائح التي لاحقت مرحلة تسييره الأولى مع تسجيل نمو مطرد لبوديموس الخارج عن كل آليات التدبير الحزبي التقليدي. وفي بقية الدول يقدم اليمين على الخصوص "زعامات" تكاد تكون خالدة ومالكة للأصل التجاري لتنظيماتها.
لم تعد النقاشات السياسية تنبني على التناقضات الأيديولوجية وجِدّة البرامج بل على الصورة الذهنية التي يستطيع "الزعيم" تكوينها لدى العامة ولدى الأنصار. ولم يعد معها التداول على السلطة الهدف بل ديمومة النماذج الناجحة ولو ارتبطت بأشخاص.
قبل أيام، عابت أوربا على الرئيس التركي تعديلاته الدستورية التي تمكنه من العودة إلى قيادة البلاد لاعبا أوحد كرسته شخصيته الكاريزمية وإنجازاته الاقتصادية رمزا لمرحلة مرتبطة بشخصه بالرغم مما يمثله ذلك من خطورة على استدامة التجربة وتطورها. رجب طيب أردوغان تكريس لتوجه يكاد يكون عالميا في ظل أنظمة ديمقراطية قدمت نفسها على الدوام بديلا لـ"حكم" الفرد.
في الدول العربية، حيث لا أحزاب حقيقية نحتاج لإعلان وفاتها، يستمر العبث السياسي والانتخابي، وتستمر "الزعامات"، رغم أنف الشعوب، في تكريس حكم الفرد السلطوي مع تفريخ دكاكين سياسية تتغير قياداتها وتنجح لوائحها وتتناوب "نخبتها" على المناصب بأوامر "الزعيم" ووفق ترتيبات اللوائح الخارجة من أقبية المخابرات.
هذا بالنسبة للدول العربية التي أكرمها الله بولوج عهد "الحياة الحزبية"، أما البقية فلابد لها من أن تحيا حتى نكرمها بـ"الدفن"..