تتواتر منذ السابع من أكتوبر الماضي شهادات قامات أمينة من بلاد الغرب وأحيانا من إسرائيليين ظلوا مسكونين بهواجس زوال دولتهم وينبهون مواطنيهم إلى مخاطر التطرف اليميني العنصري الذي لا يستغني عنه نتنياهو حتى يستمر عهد حكمه وهو واثق أنه مهدد بقضايا عدالة "بلاده" لو غادر السلطة!
أمام هذه المخاطر التي نبه إليها وسطاء السلام أستعيد من أرشيف ذاكرتي مواقف ثلاث قامات من صلب الغرب، صنعوا جزءا من تاريخ الغرب الحديث بمشاركتهم في إنجاح مسار الحوار بين الإسلام والغرب الذي انطلق من دولة قطر في مؤتمرات سنوية عديدة وظلوا صامدين..
لا بد للأمريكيين أن يعيدوا توازن الفهم لما يمكن تعلمه من تاريخ دام قرنين من الزمان خاضت فيهما الولايات المتحدة حملات عسكرية غير تقليدية في الخارج وعليهم أيضا التعامل مع عواقبها داخل أمريكا نفسها خاصة في ظل الحرب الهمجية الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة وفي ظل دعم غربي أطلسي..
مع إقدام الرئيس ماكرون على حل برلمان بلاده وطغيان اليمين العنصري المتطرف في البرلمان الأوروبي الأحد الماضي مع استقالة وزيرين من حكومة ناتنياهو وفرض حماس نفسها كشريك في تحديد حل الأزمة، يدشن العالم منعرجا جديدا غير مسبوق على خلفية حربي غزة وأوكرانيا وهما حربان قد لا يفهم الناس مدى ارتباطهما ببعضهما وتأثيرهما الحاسم على ما يسمى "النظام العالمي الراهن".
تتعاقب الدول الأوروبية على الاعتراف بدولة فلسطين الواحدة تلو الأخرى على خلفية مشاهد إبادة شعب من الأطفال والنساء على خلفية حوالي 37 ألف شهيد منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى اليوم، من بينهم 15 ألف طفل من زهور فلسطين مع قوافل الشهداء من الحرائر والشيوخ والمعاقين! هي حرب إبادة جماعية انتقامية..
كانت أبرز سردية كل المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالمي بالدوحة هذه الأيام هي الإرادة على رفض ما سمي بالنظام العالمي بسبب فشله ومعاييره المزدوجة والظلم المسلط على الشعوب. ومن جهة أخرى تتلاحق الأحداث الجسام في بلداننا العربية وفي العالم بأسره حولنا بوتيرة يومية لتعلن عن ظاهرة استثنائية عالمية قد لا يتفطن لها العرب في خضم مأساة جزء منهم فلسطين وهي تتعرض منذ 7 أكتوبر 2023 إلى حرب إبادة جماعية نازية غير مسبوقة.
تزامنت انتفاضة الجامعات الأمريكية والأوروبية لنصرة غزة مع حركات النخب اليهودية التي تكاثرت للتنديد بحرب الإبادة وآخر هذه التحركات المؤثرة كتاب وشريط سينمائي للكاتب والمخرج اليهودي الأسترالي (أنتوني أوينشتاين) بعنوان (ليس باسمي ترتكبون المجازر)..
توالت مواقف الإسرائيليين أنفسهم تؤكد نفس معنى عنوان مقالي هذا فقد قال وزير الثقافة والرياضة في حكومة الاحتلال الإسرائيلي ميكي زوهار: "إن إسرائيل فشلت ضد حماس في 7 أكتوبر وفشلت ضد حزب الله وستفشل أمام إيران"..
اليوم ولغاية السادس من أكتوبر 2023 نشاهد لوحة جيوستراتيجية تتفكك فيها دول العرب إلى ما يسمى بالدول الوطنية أي في الحقيقة ذات حدود سطرتها وفرضتها على الشرق الأوسط معاهدة (سايكس بيكو.. لعام 1916) بعد ما تم القضاء على الرابطة القوية (العروة الوثقى) الجامعة للمسلمين وهي خلافتهم الضامنة لمناعتهم.
عنوان مقالي هذا هو ما قاله الزعيم بورقيبة في خطابه الشهير في مخيم أريحا الفلسطيني يوم 5 مارس 1965 حين دعا فيه اللاجئين تحت الخيام إلى تغيير أساليب مقاومتهم لما سماه بورقيبة "آخر استعمار بعد تحرير الجزائر".. وكان الزعيم التونسي متأثرا بأوضاع الفلسطينيين ويعتبرها نتيجة السياسات الناصرية والبعثية الشعبوية التي تحركها الحماسة ولكن تفتقد إلى عقل ومنطق وتخطيط..
أمام فداحة الإبادة الجماعية لشعب من شعوبنا العربية منذ 7 أكتوبر إلى اليوم ونحن كأمة لديها كل مقومات القوة لا نزال في أغلب الأحيان نتعامل مع هذه الأحداث المأساوية الدموية بعواطفنا لا بعقولنا لأن العواطف حين تجنح بنا كأنما تريحنا من تعب الحركة ومن وجع التفكير!..
كان زلزال طوفان الأقصى منذ السابع من أكتوبر كذلك هزة عاتية للقوى العالمية بقوة سبعة على ميزان ريختر الحضاري، بدأ العقلاء في الأمم الطاغية يفكون ألغازها. هذا المنعرج الأخطر الذي يهدد مصيرنا بالانفلات وشعوبنا بفقدان البوصلة، دون أن نكون قد تهيأنا نحن ضحاياه لتحمل النتائج ومعالجة التداعيات..
يقول المؤرخون إن ما جمعه بنو العباس في خمسة قرون أخذه هولاكو في ليلة واحدة، وختم نهاية حكمهم بإذلال خليفة المسلمين وقتله شر قتلة وإنهاء حكم زاهر بالعلم والقوة والخير لم يدم لهم لأنهم أهانوا أنفسهم ونسوا الله فأنساهم أنفسهم فكانت هذه هي خاتمتهم!..
أنتقل هذه الأيام كأغلب الناس من قناة تلفزيونية إلى أخرى ويدي على زر (الريموت) تكاد ترتعش من هول الأحداث المحيطة بنا: إبادة جماعية لشعب أعزل وأطفال أبرياء على المباشر ومشاهد مقاومة مشروعة يقوم بها شباب آمنوا بربهم انطلقوا للفعل لا لرد الفعل..
شرعت اليوم الخميس محكمة العدل الدولية في المداولات حول توجيه تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية من قبل إسرائيل انطلاقا من ملف ثقيل تقدمت به أفريقيا الجنوبية والتحقت بها الدول العربية.. وسنرى هل ستكون المحكمة لسان حق وعدل أم ستخضع لقوى غربية؟