غيب الموت عنا أمس المفكر الكبير الدكتور محمد يوسف عدس، الكاتب والمثقف والإنسان الخلوق، دون أن يشعر به كثيرون، لأنه كان بعيدا عن جلبة الإعلام وضجيجه، كما كانت اختياراته الفكرية وهمومه أعلى من أن يستوعبها الإعلام الحالي الذي غلبت عليه السطحية والتفاهة.
يمكن أن نستخلص من تجربة عبد الناصر أهم المبادئ الإيجابية التي نادت بها، حتى لو كانت فشلت فيها، مثل الاستقلال الوطني ومثل العدالة الاجتماعية ومثل الحياة الديمقراطية السلمية، وتدمج تلك المعاني بالخبرة الوطنية الجديدة، خاصة بعد الربيع العربي وتجربة ثورة يناير الرائعة.
يتزايد الجدل حول الانتخابات الرئاسية المقررة في منتصف العام المقبل 2018، وهو جدل متشعب ومتنوع بقدر تشعب وفوضوية الحالة السياسية المصرية، وغياب الرؤية عن الجميع وغياب اليقين بالمستقبل أيضا، سواء لدى السلطة نفسها أو المعارضة بكل ألوانها.
القرار الذي صدر عن الشرطة الدولية "الانتربول" أمس والذي قرر إلغاء اسم الشيخ يوسف القرضاوي، المقيم في قطر حاليا، وأربعين قيادة إخوانية أخرى من قوائم طلب القبض عليهم بطلب من القاهرة، مثل هزيمة نكراء لمصر على المستويين القضائي والأمني.
مصر الآن في حالة هشاشة دستورية من الناحية العملية، ورئيس الجمهورية يفعل ما يريد وقتما يريد بالطريقة التي يريد، وفكرة المؤسسية شبه معلقة، ولا يوجد استقلالية حقيقية لأي مؤسسة، والأمور تدار بالتوجيه، والقانون نفسه لم يعد هو مرجعية الأمر والنهي والسلوك الرسمي للدولة، وإنما السياسة.
الدستور هو أكثر العلامات الدالة على استقرار الدول واستقرار نظمها السياسية، وهو أوضح دلالة على ثبات ورسوخ فكرة المؤسسية في الدولة، بما يضمن انتظام نشاطها السياسي والاقتصادي والتعليمي والتنموي بكل أبعاده، ولذلك من النادر أن تسمع عن تعديلات دستورية في الدول الكبيرة أو الناضجة.
أعتقد أن تلك التسريبات مجرد مناورات، وجس نبض، سواء من شفيق أو من داعميه، وفي تصوري أن التغيير في مصر مؤجل في تلك المرحلة، لأن الوضع في مصر مرتبط جوهريا الآن بحسابات إقليمية لا تقبل المجازفة ولا المخاطرة، حتى ولو مع شفيق.
الدلالة الوحيدة التي نخرج بها من الدعوة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي "لتثبيت الدولة"، هي إدراكنا أن الارتباك ما زال مهيمنا على صناعة القرار، والرؤية غير واضحة، والخطوات قلقة، واليقين بالمستقبل السياسي والاقتصادي والأمني مهتز.
من الخطورة بمكان على القائد أن يستقر في وجدانه أنه أوتي الحكمة من جميع أطرافها وأنه لا يتسلل إلى قراره هوى أو خطأ أو سوء تقدير، هنا تكون الكارثة حتمية، لأن الدولة بقرارها الأعلى تكون في عالم من الخيال المحض أو الأحلام أو الأماني المنفصلة عن الواقع هذا ما أتصور أنه يتشكل الآن في مصر.
القاعدة العسكرية الجديدة، التي تعتبر مفاجِئة حتى للشعب نفسه، الذي يشاهد افتتاحها من باب العلم بالشيء ليس أكثر، أسست على مساحة تبلغ ثمانية عشر ألف فدان، وهو ما يعادل أكثر من سبعة وسبعين مليون متر مربع، أي إننا أمام مدينة حقيقية.
رأس السلطة لم يعد معنيا بقبول شعبي أو عدم قبول شعبي بفعل تلك القرارات والمواقف التي تجعله يخسر تدريجيا كل قطاعات المجتمع بما فيه القضاء ولم يعد مشغولا بفكرة إمكانية أن يزهد فيه شعبه عبر انتخابات قريبة يبدو واضحا أن هذه المسألة لا تقلقه ولا تشغله ويثق تماما أنها ـ رغم كل شيء ـ ستمر؟!
في بدايات ظهور السيسي وتحمله المسؤولية كان التفاؤل يملأ العبارات "بكرة تشوفوا مصر"، مصر قد الدنيا وها تبقى قد الدنيا، وخلال ثلاثة أعوام فقط وصلنا إلى مستوى الاعتراف: إحنا فقرا قوي قوي، وما عنديش، أجيب منين، ولازم نستحمل، واصبروا سنتين، طيب اصبروا كمان ستة أشهر، وهكذا.
من الواضح أن السلطات الحالية لا تتعامل مع الإعلام كمنبر أو جسر للرأي العام، وإنما تتعامل معه كهتيفة ومهرجين موالد، لإشغال الناس والرغي بالكلام الفارغ والجاهل والأحمق، مع الحرص على عزل الإعلام ذاته عن أي معلومة رسمية أو أي موقف رسمي، إنه منتهى الاحتقار الذي يمكن أن يلحق بإعلام في أي بقعة من العالم.
يا فضيلة الإمام، أبناءك أبناءك، الله الله فيهم، ولا يصح أن يتركوا نهبا لصفقات سياسية قصيرة النظر، فهؤلاء في الأمد البعيد هم سفراء مصر الحقيقيون، بما يتبوؤه من مناصب أو أعمال أو ريادات دينية أو ثقافية أو سياسية أو ديبلوماسية،
البابا تواضروس المثقف لا أظنه يجهل أن الخراب والدمار لم يكن من الربيع العربي وإنما من الثورات المضادة على الربيع، شعوب استبيحت كرامتها على مدار عقود طويلة، نهضت تبحث عن الكرامة والحرية والعدل، لماذا تشتمها، لماذا تهينها، بدلا من أن تقوم بدورك الأخلاقي،
