أمة لا تبحث إلا في نفايات البشر وصندوق قمامة العالم عن نماذج تتأسى بها وتعمل على نهجها وتتخذها قدوة لا تتوقع أن يكرمها الله بنهضة ولا تطور ولا نمو، لا تتوقع إلا أن تنتهي تجاربها إلى نفس حال النفايات التي اتخذتها قدوة، والمصيبة أن أبناءنا وأحفادنا هم من سيدفعون الثمن.
الطريف أن نفس تلك الأصوات التي كانت تغني لعبقرية مبارك وأنه لا بديل له يصلح لقيادة مصر وأنه لا بد أن يمنح فرصته كاملة في القيادة، عادت لتمتطي صهوة الإعلام من جديد وتروج لحكاية أن السيسي لا يكفيه مدتان رئاسيتان، لا بد أن يعطيه المصريون وقتا كافيا لتحقيق طموحاته ومشروعاته.
لا بد أن يستوعب الرئيس أن حوالي أربعين مليون مواطن مصري له حق التصويت أداروا له ظهورهم رغم كل الإغراءات وكل ما جرى، أربعون مليون مصري لم يقتنعوا بنداءاته للمشاركة، أربعون مليون مصري رفضوا القبول بالحديث المتكرر والممل عن تثبيت الدولة للتهرب من التزامات معيشية وسياسية تلتزم بها أي سلطة في العالم.
في اليوم الثاني للتصويت بدأت ملامح التوتر تظهر على أكثر من صعيد مهتم بالنسبة والأرقام التي ستخرج بها الانتخابات، وانتشرت الدعايات في الشوارع بمكبرات الصوت تحض الناس على النزول للتصويت، كما انتشرت دعايات أخرى تتوعد من لم ينزل للتصويت بعقوبة مالية ضخمة.
ما يحدث في الانتخابات الرئاسية أصبح علامة على سياسات النظام الجديد في مصر، في مختلف شؤون الحياة، وهي سياسات "الصورة" والشكل و"اللقطة"، فالمهم دائما أن تخرج "الصورة" حلوة، ومهم جدا أن تكون "اللقطة" ساحرة، وليس مهما بعد ذلك تطابق الصورة مع الواقع، أو أن تكون اللقطة معبرة عن حقيقة الأمور أو جوهر الوضع.
مشكلة مصر الأكبر في هذه المرحلة، أن العقل الأمني هو الذي يقود أغلب خطوات الدولة واختياراتها وقراراتها، لذلك تبدو كثير من القرارات والمواقف بالغة الغرابة والدهشة عندما توزن بأي معيار سياسي.
انتخابات الخارج ليست حاسمة في النتائج النهائية بطبيعة الحال، ولكنها ستعطي مؤشرا على حجم الاستجابة والتفاعل، وأعتقد أن الصناديق إذا خيبت الظنون في عدد أصواتها فستمثل ضغطا عصبيا زائدا على أصحاب القرار في الداخل، تحسبا من أن تنعكس على انتخابات الداخل الحاسمة.
على الجفري له حضور شبه ثابت أسبوعيا في التلفزيون الرسمي للدولة، فضلا عن القنوات المصرية الخاصة التي لها صلة خاصة بالإمارات، ويظهر الشاب المعمم على الجفري على الإعلام المصري أكثر من ظهور شيخ الأزهر نفسه.
بكل تأكيد، ليست هذه هي الأجواء الانتخابية التي تعبر عن مجتمع عاش ثورة كبيرة في يناير 2011 وعاش في زخمها السياسي والشعبي الهائل ثلاث سنوات تقريبا، كما أن المقارنة بين الانتخابات الحالية وانتخابات 2012 مثلا، التي شهدت معركة ضروسا بين مرسي وشفيق وأبو الفتوح وحمدين صباحي، تغنيك عن شروح كثيرة.
تعيش أغلب الدول العربية حالة من التململ والحراك السياسي العنيف أو الكبير خلال السنوات الأخيرة، ويمم وجهك شطر سوريا أو العراق أو الجزيرة العربية أو مصر أو ليبيا أو المغرب العربي، ستجد شيئا من ملامح هذا القلق ـبدرجات متفاوتة.
عندما أتجول في مقالات النخبة المصرية، أو في حساباتهم على مواقع التواصل، أو أي حوارات لهم، أرى غيابا شبه كامل عن رؤية ما يحدث في سوريا، وكأن هذا الشعب المسكين أخطأ عندما حلم بالحرية،
الروح الاحتفالية التي يتعامل بها الإعلام الرسمي والموالي عن تلك الاتفاقية مع "إسرائيل"، وحديث الرئيس الاحتفالي أيضا بأننا أحرزنا "جون" بذلك، يعطي إشارة واضحة على تغير جذري في عقيدة الدولة المصرية ومؤسساتها وموقفها من الجار "العدو" سابقا.
الناس تسأل -بحق- إذا كان رئيس وزراء "إسرائيل" يخرج بنفسه ويتحدث عن الصفقة ويزف خبرها لشعبه، فلماذا لا يخرج رئيس الوزراء المصري ليحدث الناس عنها، أو على الأقل وزير البترول؟ ولماذا لا يعقد مؤتمرا صحفيا؟ هل الأمر لا يستحق إلى هذه الدرجة، أو أن الرأي العام ليس مهما إلى هذا الحد؟!
حكم الدول هي سياسة، ومقتضى السياسة الحكمة في أن تسوس الناس وترعى مصالحهم، وأن تمتلك البصيرة وبعد النظر في مآلات الأمور، دون اكتفاء بالنظر إلى ما تحت قدمك أو ما هو قائم في اللحظة الحالية، فتيارات السياسة ليست كلها من صنعك أو رهن إشارتك وحسب تقديرك واختيارك.
تنظيم داعش ليس "بعبعا" وليس كائنا أسطوريا يحتاج إلى أن يستمر الرئيس السيسي في حربه طوال خمس سنوات تقريبا بلا أفق للنهاية، هذا غريب جدا وصعب التصور، خاصة إذا لاحظنا فارق الإمكانيات والقدرات بين المؤسسات والأجهزة الأمنية المصرية وغيرها في دول الجوار،
هناك انطباع سائد الآن، داخل مصر وخارجها، بأن الأمور "ليست بخير"، وأتت أحاديث الرئيس الغاضبة والمنذرة مؤخرا والمحذرة بمواجهة "أهل الشر" لتضيف المزيد من القلق وغياب اليقين بل اهتزاز اليقين بمستقبل البلاد، وهذا خطير جدا في الحساب السياسي.
