التبشير بالجمهورية الجديدة ترافق معه خطاب يتعلق بالجمهورية المفلسة، وبدت ماكينة التبريرات التي يطلقها ذلك النظام ليست إلا أسطوانة مشروخة يعدد فيها الأسباب الزائفة والمختلقة ولا يعترف أبدا بفشله، بل يحيل ذلك الفشل من كل طريق إلى غيره، ويحمّل عموم الناس تبعاته وآثاره
كما تدور المعركة على الرشد والرشادة تستمر هذه المعركة حول معنى الصلاح والإصلاح، ولعل ما أكدناه منذ البداية أن المستبد يقوم بتغيير المفاهيم في ذاتها ضمن منظومة ظلمه، فيظلم الكلمات، ويغتصبها اغتصابًا، ويملأها بما أراد واصفًا ما أراد بما أراد.
في الأيام القليلة الماضية وقع في مصر حدثان ما زالت آثارهما مشتعلة، بل إننا لا نبالغ إن قلنا إن هذين الحدثين أو أحدهما على الأقل سيكون مؤثرا على الحياة السياسية المصرية ولن يمر مرور الكرام مهما روج النظام من سرديات متهافتة..
باتت كل هذه الأمور الخانقة بهذه الشبكة المرعبة مُناخًا تٌصنّع فيه سردية وحيدة، جعلت طرفًا منها يتعلق بتسيير محاكمات اتسمت بالتلفيق الفاضح، وبنوعية قضايا ما أنزل الله بها من سلطان، حاول هؤلاء أن يلصقوا كل تهمة بهذه الفئة التي اختاروها وبالرموز التي توقفوا عندها..
أراد ابن خلدون من ذلك الفصل أن يتحدث عن الاتجار مع البشر، الذي يفسد الحالة الاقتصادية ويهيمن فيه أهل السلطة والسلطان على الأسواق ومصادر السعي والرزق، فيبطل حركة النشاط، ويحتكر كل المسالك التي تتعلق بمقدرات البلاد والعباد
عندما يتخذ قرارا بالتراجع عن بعض التفاصيل الصغيرة في حالة التأزيم التي اصطنعها على عينه وبممارسة سياساته الظالمة يعتبر ذلك إنجازا. إلا أن الوصف الصحيح له هو الاحتيال المركب، إذ يتوسع في فعل الانتهاك ويقتّر بالمن المؤذي؛ بل ربما يتغافل في التراجع عنه
التغيير الحقيقي الذي يمكن أن يكون محل احترام وتقدير من العديد من الأطراف الداخلية والخارجية أن تتوقف تلك الممارسات الإجرامية في حق هؤلاء وأن يتم التعامل معهم بصورة عادلة وقانونية محددة، وأن تكون هناك نزاهة وشفافية ومساءلة في ملف السجون
بين كل هذه النظرات التي تتعلق باستخفاف المستبد بشعبه وتكويناته الاجتماعية والأسرية، والنظر إليهم في خانة الاتهام وعدم الأهلية وتحت حراسته، يأتي خطاب الاستخفاف والاستهانة والتبرير لفشله في أي إنجاز يهدف إلى انتشال الناس من قسوة فقر أو إنجاز يخفف عنهم كل تلك الاختناقات التي تطولهم في حياتهم اليومية
لقد سرق كل هؤلاء في ميدان الواقع كل الحقوق وزيفوا من خلال تقاريرهم ومؤسساتهم ووثائقهم حال الحقوق وكأن الدولة قد أعطت المواطن أكثر من حقوقه وأنها تقوم على تدليله لا إذلاله؛ إنهم بحق لصوص المواطنة.
يقوم النظام المستبد باستخدام آليات مختلفة في محاولة لتزييف وعي الشعوب وعموم الناس واهتماماتهم، في محاولة منه أن يدفع بقضايا هامشية أو عدمية إلى واجهة المشهد، مستخدما في ذلك البرامج الفضائية أو مقاطع الفيديو المرتبطة بالصحف، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي
هذا هو منطق النظام الفاجر الذي لا يهمه في شرعنة نظامه إلا نظرة الخارج له وخدمته وحراسة أمنه بحبس هؤلاء من أجلهم، وأن استقرار أنظمة استبدادهم أمان لهم.. هكذا خطابهم الملعون وتبريرهم المزعوم
تبدو في الظاهر دولة العسكر دولة قوية متماسكة من ناحية الشكل، إلا أنها من الناحية الاجتماعية والمجتمعية هشة وضعيفة وغير متماسكة، تحمل في داخلها جذور الفرقة والانقسام، وقابليات الاستبداد والاستعباد
لم يعد يخفى على أحد، سواء من جهات داخلية أو خارجية، رسمية أو غير رسمية، أن المواطن الفقير الذي يزداد فقراً ويحكم الحصار على كيانه وبنيانه هو من بات يتحمل العبء الأكبر لعمليات الاستنزاف الاقتصادي الممنهجة، ديناً وإفقاراً
ثورة يناير كانت بين حقبتين؛ حقبة طالت على عهد مبارك "المخلوع"، وحقبة تلتها بانقلاب عسكري أسس ما أسميناه نظام الثالث من يوليو الذي مارس أعلى سياسات طغيانه، وأقسى ممارسات ظلمه
حينما يبرر تلك السياسات الطاغية، ويواجه تلك الاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان، فإنه لا يملك إلا تخريجات خطابية تعبر في حقيقة الأمر عن كلام أقرب ما يكون إلى الهذيان منه إلى ضرورة مراعاة الحقوق المعتبرة في حق الإنسان وحماية الكيان وممارسة كل ما يتعلق بحريته في حقوقه الأساسية وكذلك حقوقه المدنية والسياسية