الأرجح أننا لم نتعرف بعد إلى التغيير الحاصل وحجمه ومضمونه، وبالطبع لن يتّضح مؤدّاه إلا بعد ارتسام ملمح واقعي وعملي للتقارب الأمريكي - الروسي بالنسبة إلى سورية، أو بعد تأكّد صرامة إدارة دونالد ترامب حيال إيران.
لا يزال الاعتقاد الأكثر شيوعا عن الإرهاب، مجسّدا بتنظيمَي «القاعدة» و «داعش» وما تفرّع عنهما، أنه يسعى إلى إقامة «الدولة الإسلامية» أو «دولة الخلافة»، أو في حدّ أدنى إلى فرض «الحكم بشرع الله».
اتسمت دعوة الولايات المتحدة إلى المشاركة «بصفة مراقب» في المحادثات السورية في آستانة برمزية حتمتها ظروف الانتقال من إدارة إلى إدارة في واشنطن، لكنها قد تبقى في شكل أو في آخر ملازمة للتعامل الأمريكي مع هذه الأزمة، أي أن يستمرّ «مراقبا».
أصبح التحالف بين روسيا والنظامين السوري والإيراني مواجهة مفتوحة لن تلبث أن تظهر معالمها أكثر فأكثر. وتمرّ الأزمة السورية حاليا بأخطر مرحلة، وبصراع متصاعد بين «الحلفاء» على مَن تكون له الكلمة الأخيرة ليس فقط في تقرير مسار الأزمة، وإنما في تقرير مستقبل سورية.
هناك ثغرات في خريطة الطريق الروسية لتجميد الصراع في سورية، أو لإنهائه، ومن الواضح أن موسكو بالغت في تقدير رضوخ نظام بشار الأسد وإيران ومليشياتها لإرادتها، أو أنها قللت من شأن خرقهم وقف إطلاق النار أملا في تعويضهم ما اعتبروه «خسارة» في النهاية التي رسمتها لمعركة حلب بالتفاهم مع تركيا.
بشار الأسد جاء بقاسم سليماني. الأسد وسليماني جاءا بـ «داعش». «داعش» و»النُصرة» جاءا بـ«التحالف الدولي» أي بالأمريكيين. الأسد وسليماني و»داعش» و»النُصرة» جاؤوا بفلاديمير بوتين. بوتين جاء برجب طيّب أردوغان أو بالأحرى أعاده إلى اللعبة بعدما كان لحاقه بالأمريكيين أخرجه منها.
المحنة السورية كشفت زيف قيم العصر ومبادئه، وعرّت الفوارق الوهمية بين غرب أميركي - أوروبي يحاضر بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، لكنّه يمجّد القوة ويحصّنها ويجاملها مهما عتت، وبين شرق روسي.
تتكشّف النيات الروسية والإيرانية أكثر فأكثر، كما يستشرس أي وحش كلما ولغ في دم فريسته. لم يعد سفاحو حلب يطالبون بالتمييز أو الفصل بين «المعتدلين» معارضي نظام بشار الأسد و?«الإرهابيين». سيعتبرهم سيرغي لافروف إرهابيين جميعاً، طالما أنهم قرروا عدم مغادرة المدينة.
أصبحت للعرب قضايا «فلسطينية» ثلاث، فلسطين والعراق وسورية، وربما يستزيدون لاحقا. هي «فلسطينية» بمختلف الأبعاد التي مثّلتها تلك التي وسموها لزمن طويل «القضية المركزية»، ولم تعد كذلك؛ لأن الدول التي دافعت عن مركزيتها أصبحت هي نفسها إمّا قلقة على مستقبلها، أو مأزومة، أو آيلة إلى التفتت والتقسيم.
لم يكن صحافيون أميركيون وبريطانيون يدركون أن إعلامهم كان مضلِّلا للرأي العام، في شأن الأزمة السورية، إلى أن أُتيحت لهم فرصة مقابلة رئيس النظام بشار الأسد..
تتخلّع القلوب والعقول إزاء محنة المدنيين في الحرب على تنظيم «داعش» في الموصل. فلا الباقون في قبضة الإرهاب ناجين ولا الهاربون أيضا. هناك الخوف والرعب، وهنا الإذلال والتنكيل والقتل والسحل. هناك، «داعش» يودّع مناطق سيطرته بإعدامات..
«ترقى إلى جرائم حرب»، ماذا يعني ذلك؟ لا شيء. مجرد كلام وتلويح بالاتهام مع إدراك مُسبق لصعوبة المضي به، فالنظام الدولي عُطّل بـ «فيتو» الدول الخمس الكبرى يوم أنشئ مفترضاً أن هذه الدول لا يمكن أن ترتكب جرائم كهذه. لكن ما يحصل في حلب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية يقف العالم بإزائها عاجزاً تماماً. أكثر من ذلك، كان مجرم الحرب، أو ممثله، مترئّساً جلسة مجلس الأمن يوم السبت 08/10/2016 ليرفض مشروع قرار يطلب وقف إطلاق النار وإيصال مساعدات إنسانية مع آلية دولية للمراقبة. ولماذا يرفض؟ لأن المقترح يمنعه من مواصلة القتل والتدمير. أما مشروعه المضاد فلا يجيب عن سؤال منطقي بسيط: كيف تكون الهدنة ممكنة مع استمرار القصف الجوي؟ ما يعني بوضوح أن روسيا، ونظام بشار الأسد بالتبعية، يرفضان أي وقف لإطلاق النار.
يعتقد الموالون لنظام بشار الأسد، وأنصار «محور الممانعة» الإيراني في العراق ولبنان وغيرهما، ومعهم عواصم عربية كالقاهرة والجزائر، أن استمرار النظام واستعادته السيطرة على كل المناطق هما دعامة الحفاظ على سورية «موحّدة».
من يتحمّل مسؤولية جرائم الإبادة في حلب ومَن يُحاسب عليها؟ أثبتت الجلسات الأخيرة لمجلس الأمن، أن المجتمع الدولي مستعدّ لمواصلة التفرّج وإبداء الغضب والتأثّر من دون أن تكون لديه القدرة على لجم الوحشية الروسية، بعدما أمضى أعواما في تمكين بشار الأسد ونظامه من الإفلات من العقاب.
اتفق الأمريكيون والروس في شأن سوريا، لكن أحدا لا يعرف ما هي حقيقة نياتهم. إذ إن "تعاونهم" يركّز على عمليات مشتركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) و"جبهة فتح الشام" ("النُصرة" سابقا)..