الجهات المانحة قد تغض الطرف عن إشراك الفاعلين السياسيين أو حتى عن عودة الديمقراطية في تونس، ولكنها لن تقبل بإقراض تونس دون إمضاء الشركاء الاجتماعيين، وفي مقدمتهم اتحاد الشغل الذي عليه التعهد بعدم تشغيل "الماكينة" لإفشال الإملاءات الاقتصادية
إننا أمام "مشروع تاريخي" مفتوح على أكثر من مسار. فقد لا تكون "جبهة الخلاص الوطني" (مهما كانت مخرجات الصراع الحالي) إلا واجهة لإعادة تدوير منطق التوافق وإعادته إلى الحكم، ولكنها قد تكون لحظة تجاوز جدلي لهذا المنطق الذي كان هو الآخر انقلابا ناعما على استحقاقات الثورة وانتظارات المقهورين والمقموعين
على هذه الجبهة أن تراجع خطابها بصورة معمّقة حتى لا تكون مجرد صرخة في واد، أو مجرد مبادرة لا مستقبل لها خارج الأطراف التي عارضت الرئيس منذ ظهور مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"
مهما كان موقفنا من إجراءات الرئيس قيس سعيد منذ 25 تموز/ يوليو الماضي، فإن تلك الإجراءات قد جاءت لتؤكد هشاشة الوعي/ المنجز الديمقراطي في تونس، كما جاءت لتؤكد أيضا أكذوبة الانشغال الغربي بالديمقراطية وبما قد تتعرض له من انتكاسات
يبدو أن هيمنة الرئيس التونسي على المشهد السياسي لن تتعرض إلى تهديدات جدية ما لم تقع تحولات عميقة في المستوى المحلي سياسيا واقتصاديا، وما لم تقع كذلك تغيرات جذرية في الموقف الدولي من مشروع "الديمقراطية القاعدية" ومن يسندها في الدولة العميقة.
بصرف النظر عن السجال المستمر إلى أيامنا هذه حول علاقة "الثورات العربية" بالاستراتيجيات الغربية لإعادة هندسة المشهد الجيو ـ سياسي في المنطقة، لا يمكن لأي مراقب للشأن التونسي أن ينكر أثر التدخلات الخارجية في تشكيل المشهد العام منذ هروب المخلوع إلى السعودية يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011.
إن "تصحيح المسار" هو "تأسيس جديد" وليس مجرد إصلاح من داخل المنظومة. ولذلك رفض الرئيس كل الدعوات إلى الحوار، واجترح مسارا موازيا للتأسيس، وهو مسار ابتدأ بالاستشارة الوطنية الإلكترونية وسيُثنّي باستفتاء وطني في 25 تموز/يوليو القادم،
بصرف النظر عن مدى الدعم الشعبي لإجراءات الرئيس، استطاع هذا الأخير أن يفرض قراءته للفصل الثمانين من الدستور، مستغلا تشتت الأحزاب ومستثمرا استراتيجيات الترذيل الممنهج للبرلمان وهيمنة الصراعات الهوياتية على السجال العمومي منذ الأيام الأولى للثورة.
نتائج الاستشارة الوطنية قد أكدت أن الرئيس لا يحتاج في فرض سلطته "التأسيسية" إلى تمثيلية شعبية كبيرة، ولا إلى الاستعانة بالمؤسسة الأمنية أو حتى بالتضييق النسقي على الحريات، بل كل ما يحتاجه هو استمرار موازين القوى بينه وبين خصومه على وضعها الحالي
المستقبل السياسي للرئيس ومشروعه سيكون مشروطا بموقف الاتحاد من إملاءات الجهات المانحة، ولكننا قد لا نبالغ أيضا إذا ما قلنا بأن مستقبل الاتحاد ذاته سيكون مرتبطا بطبيعة علاقته برئيس الجمهورية خلال المرحلة القادمة
الرئيس لا يعتبر الاستشارة (أو الحوار الوطني العمودي) إلا شكلا من أشكال الاستئناس بالإرادة الشعبية؛ التي سبق لها أن فوضته تفويضا مطلقا ونهائيا وغير قابل لـ"سحب الوكالة" منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي. وهو ما يعني أن الرئيس لن يعتبر فشل الاستشارة أو فشل الاستفتاء طعنا في شرعيته
يبدو أن فشل الاستشارة الالكترونية التي أراد الرئيس قيس سعيد أن يُشرعن بها الاستفتاء وما يقوم عليه من احتكار "السلطة التأسيسية"، لن يمنعه من مواصلة سياسة الهروب إلى الأمام
بصرف النظر عن منطق "المؤامرة" الذي يرى في الرئيس قيس سعيد ومشروعه السياسي صنيعة محور الثورات المضادة وبعض مكونات المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي داخل أجهزة الدولة والمجتمع المدني والنقابات، أظهر الرئيس التونسي قدرة كبيرة على توظيف تناقضات المشهد السياسي وآفاته الأيديولوجية وصراعاته
بالإضافة إلى تحكّمه في السلطتين التنفيذية والتشريعية وسعيه للتحكم في السلطة القضائية، يتحكم الرئيس عبر منطق "التعليمات" في السلطة الرابعة، ويتحكم أيضا في السلطة الدينية. كما يستمد قوته من "واقع متناقض" هو التقاؤه الموضوعي مع أغلب الأجسام الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية
أثبت الرئيس أنه أبعد ما يكون عن مشروع "الكتلة التاريخية" ومنطقها المتجاوز للصراع الأيديولوجي، كما أثبت أنه مجرد لحظة جديدة في الصراع السياسي على أساس الهوية والاصطفافات الإقليمية، وهو واقع قد يدفعه إلى استثمار يوم 6 شباط/ فبراير لمحاولة الخروج من عزلته السياسية واستثمار ملف الاغتيال السياسي