المخرج من الأزمة السياسية الحالية - مهما كان شكل الخارطة السياسية الذي سيفرزها - لن يكون واقعيا إلا مدخلا لأزمات جديدة ما دامت "الكتلة التاريخية" أو "الخيار الثالث" مجرد مطلب طوباوي لا وزن له ولا تأثير على مجريات الأحداث، ولا يُتوقع أن يكون له دور وازن في إعادة هندسة الحقل السياسي
إذا كنا لا نشك في صحة القاعدة التي تقول بأن من يحدد الإطار يتحكم في النتائج، فإننا لا نشك أيضا في أن الإطار الذي فرضه الرئيس على كل الفاعلين الجماعيين - وما أوجده من "فرز تاريخي" - قد يجعلهم يبحثون عن إطار مختلف لتجاوز الأزمة الحالية
ليس الغموض المقصود - في خطاب القوى الانقلابية - هو فقط غموض وضع الديمقراطية التمثيلية، ولا غموض الوضع الاقتصادي وواقع الحريات الفردية والجماعية، بل هو أساسا غموض وضع تلك القوى في مشروع الرئيس الذي ما زال مصرا على إقصائها من إدارة حالة الاستثناء وتحديد مخرجاتها، وغموض مستقبل "العدو المشترك" أي النهضة
إننا أمام لحظة جديدة من لحظات إعادة هندسة المشهد السياسي في تونس، وهي لحظة يراها الرئيس جزءا من "تصحيح المسار" ومحاربة الفساد ويراها خصومه محاولة لتوظيف القضاء بقصد تصفية خصومه السياسيين والبحث عن "مشروعية" زائفة؛ بعد فشله في تحقيق أي إنجاز منذ إعلان حالة الاستثناء
مجرد "التسليم" بصوابية الإجراءات -رغم كل الإخلالات الشكلية التي ارتبطت بها - يمنح الرئيس الحق في التكييف الحصري لمعنى الخطر الداهم، كما يجعله في حل من تحديد سقف زمني لإنهاء حالة الاستثناء
إننا أمام فرضيتين لا يمكن ترجيح إحداهما في الوقت الحالي بصورة يقينية، وإن كنا نميل إلى أن خراج الصراعات كلها لن يذهب إلا إلى خزائن المنظومة القديمة؛ ما دام الاتحاد هو المحدد الأساسي لمخرجات الأزمة الحالية كما كان في جميع ما سبقها من أزمات دورية
خطابات التخوين أو الترذيل المتبادل لن يكون المستفيد منها إلا الرئيس ومن يناصره من أعداء الانتقال الديمقراطي، وقد يكون الأهم من ذلك كله هو الاستراتيجية التي ستُعتمد في الصراع مع الرئيس ومشروعه
ليس بين الخضوع إلى إملاءات الجهات المانحة من جهة أولى، وبين "التطبيع" مع الكيان الصهيوني من جهة ثانية؛ إلا خطوة لن يعدم الرئيس ألف حجة لتبريرها، ولن يعدم كذلك ألفَ ترحيب إقليمي ودولي للقيام بها
مستقبل الحياة السياسية في تونس ستحدده خيارات الفاعلين الأساسيين، سواء أكانوا في الحكم أم في المعارضة. فقبول الرئيس بتمرير "الإملاءات" الخارجية سيدفع بالقوى الدولية إلى إعطاء الضوء الأخضر للإمارات والسعودية لدعمه وضمان بقائه في السلطة. ولكنّ رفضه لأداء هذا الدور سيعني واقعيا فقدانه لعلة وجوده ذاتها
الصراع الحالي هو صراع بين مكوّنات منظومة واحدة ما زالت تختلف في ملف التطبيع مع حركة النهضة، رغم أنها قد أصبحت طابورا خامسا في تلك المنظومة، كما نؤمن بأن أي "حوار وطني"، بتدخلات أو إملاءات إقليمية ودولية معلومة، لن تكون مهمته إلا إعادة توزيع الأدوار والصلاحيات بين تلك المكونات بمن فيهم الرئيس
رغم أن "المساندة النشطة" بعد 25 تموز/ يوليو قد تحولت إلى "مساندة نقدية" بعد 22 أيلول/ سبتمبر، فإنها لن تصبح رفضا لـ"تصحيح المسار" إلا بعد التأكد من استحالة نجاح الرئيس في ما ينتظره منه "الحزام": إخراج حركة النهضة وائتلاف الكرامة من الحقل السياسي القانوني وتقاسم السلطة مع الرئيس
كل ذلك سيجعل الانتقال الديمقراطي برمته "حالة استثناء" أو مرحلة مؤقتة يتهددها مشروع العودة إلى الجمهورية الأولى؛ بغطاء الإنقاذ أو الإصلاح أو غيرهما من الحجج التي لن يعدمها المستفيدون من استضعاف الدولة، والمتضررون من أي مشروع مواطني اجتماعي في الداخل والخارج.
بمراسيمه الأخيرة، أطلق الرئيس رصاصة الرحمة على كل أولئك "الأنصار" الذين أرادوه شريكا توافقيا يحل محل النهضة وائتلاف الكرامة وجزءا من المنظومة القديمة، أي شريكا يتقاسم معهم السلطة تحت سقف الجمهورية الثانية بعد أن يخلّصهم من النهضة أساسا، وإن كان ثمن ذلك العودة إلى النظام الرئاسي
لا يمكن في اللحظة الحالية الجزم بمخرجات هذا الصراع ولا بتغيرات مواقف أطرافه، خاصة إذا ما علمنا بأن القرار السيادي أو اسقلالية الفاعلين المحليين ليس إلا مجازا أو أسطورة من الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة التي تقترب من وضعية "الدولة المفلسة"
لوأردنا أن نبحث عن جذر الأزمة أو عن العلة الأخطر في تونس فإن علينا البحث عنها في "النمط المجتمعي"، هذا النمط الذي يراد إعادة إنتاجه وإبعاده عن أي تفاوض جماعي بعد الثورة. ولا شك في أن تونس قد حققت مكاسب محدودة في لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية ولكن تلك المكاسب قد ارتبطت بعقل سياسي جهوي، تابع ومتخلف