لو كان للمرء أن يختزل النموذج الاقتصادي، الذي بنيت عليه المنابر الإعلامية التقليدية، والصحافة المكتوبة على وجه التحديد، لقال التالي: إن هذا النموذج إنما تمثل ولا يزال يتمثل في عملية تغطية مجموعة من التكاليف القارة (إدارة التحرير، الأداة الصناعية وأداة الإنتاج، شبكة التوزيع...الخ).
ليس ثمة من شك أن حرية التعبير إنما هي عنصر أساس لكل ديموقراطية، وأن التشريعات واللوائح والقوانين غالبا ما تحدد بالقياس إلى هذا المبدأ لا بالاحتكام إلى ما سواه. بصلب كل ذلك، يمثل مبدأ الوصول للمعلومة والحق في الحصول عليها، وتقاسمها، والإفادة منها، مبدأ مركزيا لتكريس قيم المواطنة والحرية، وتجسيد الحقوق المدنية والسياسية للأفراد كما للجماعات على حد سواء.
من المبالغة حقا الادعاء بأن لجوء العديد من المنابر التقليدية، المكتوبة أو المرئية أو المسموعة، بطريقة كاملة (عبر تحولها إلى منبر ألكتروني قائم الذات)، أو بطريقة جزئية، (بالإبقاء على الصيغة الورقية، بالموازاة مع التواجد على الشبكة) من المبالغة القول إن الأمر يشي بالموضة، أو بسلوك للهروب إلى الأمام.
بات من الثابت اليوم، أن الشبكات الرقمية قد خلخلت بقوة طبيعة الإعلام، وخلخلت أدوات اشتغاله، والنماذج الاقتصادية التي انبنى عليها لعقود طويلة انصرمت، فإنها أضحت بالآن ذاته، وسيلة ناجعة لإعادة تموقعه (تموقع الإعلام أقصد)، وإعادة النظر في خياراته واستراتيجياته، بالمديين المتوسط كما البعيد.
ثمة حقيقة تاريخية وسوسيولوجية ثابتة، أبرزتها الدراسات النظرية، وأكدتها البحوث الميدانية، ومفادها القول بأنه لحدود الوقت الراهن، لم تستطع أداة إعلامية جديدة أو مستجدة، التجاوز على ما سبقها من أدوات، ولا تمكنت من إلغائها إلغاء تاما..
هل ولى زمن المكتوب والمسموع والمرئي؟ هل "انتصر" خيار الافتراضي وبات مسكن وسائل الإعلام التقليدية؟ لسنا متأكدين من ذلك حقا. بيد أن الذي يتموج أمام أعيننا إنما حقيقة تقدم مجال وتراجع آخر..
تروج، منذ مدة غير بعيدة في الأدبيات الإعلامية، مقولة مفادها أن الإعلام، الإعلام التقليدي تحديدا، بروافده المختلفة، المكتوبة والمسموعة والمرئية، قد انتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل تطوره، بحكم الطفرة التكنولوجية التي طاولت ميادين الإعلام..
التطرف يبدأ بالفكر وبأدمغة الناس، ثم يسري ويتدرج في أفق استباحة منظومات قيمهم، ثم يتطور ليتحول إلى رفض للآخر، ثم إلى إخراجه من الملة وتكفيره، ثم إلى استباحة دمه وعرضه، ثم إلى إفساد الضرع والزرع جملة وتفصيلا
الإعلام قد بات مطالبا اليوم بالاشتغال وفق ثلاثة مسارات رئيسية، متنافرة في المظهر، لكنها متكاملة بقوة في الجوهر: مسار التكاملية بين المضامين الرقمية ومضامين الحامل الورقي.
إن الخروج من اختزالية النمط التمثيلي، الذي لم يكن المواطن بموجبه إلا مجرد مصوت أو مراقب للسياسة عن بعد، هذا النمط بات في طريقه للتجاوز، ليس فقط بفعل التحولات التي طاولت الفضاء العام، ولكن أيضا لأن جدلية التكنولوجيا والمجتمع هي التي باتت تؤثث ذات الفضاء.
ثم أين يبدأ الحق في الإعلام وأين ينتهي؟.. نعتقد أنه يبدأ بالاعتراف بهذا الحق، وتمكين الأفراد والجماعات من ممارسته، ونزعم أنه ينتهي عندما يطال حرية هؤلاء وذواتهم.
هي منظومة متكاملة ومتناسقة وفعالة، لا بل قل وناجعة، لا يستطيع أحد، من داخلها أو من الخارج، أن يزايد على تناسقيتها كثيرا، أو يقوضها، أو يأتي بنقيض لها من أمامها أو من خلفها.
إن المطلوب اليوم، والملح أيضا، إنما إعمال الآليات لتجسير الفجوة بين ما يصدر عن المثقف الملتزم من أفكار وآراء، وبين ما يتخذه المؤتمن على السلطة من قرارات، إذ عمل الثاني لا يمكن أن يقوم أو يستقيم إذا لم يكن مبنيا على رأي الأول..