كتاب عربي 21

بين حيوانين أو ثلاثة

أحمد عمر
1300x600
1300x600
رويتُ في جمع من الأصدقاء الألمان والسوريين، محاسن أهل الشام ورقَّتهم، إذا قيل: المحبةُ والوئامُ، تلألأ فـي خـيـال المـجـد شامُ، وكان منهم صديقي الشاب نوري، الذي ينغّصُ عليّ العيش، وما أعجب إلا من راغب في ازدياد، وقارنتُ محاسنهم مع مساوئ ومقابح العصابة التي حكمتْ الشام نصف قرن، وجرَّدتْها من اللحم والعظم، وذبحتها من الوريد إلى الخليج، وصديقنا أبو عارف يترجم الآلام من العربية إلى الألمانية، فإذا بون أغاني جلَّق وإذا غرينلاند نجوى يثربِ. فقلت: إن الإمبراطور الألماني غليوم الثاني وزوجته فكتوريا، زارا دمشق القديمة يوم دعاهم السلطان العثماني عبد الحميد، وذلك يوم الثلاثاء في الثامن من تشرين الثاني عام 1898، واحتفتْ بهم دمشق عظيم الاحتفال، اختلط فيه أصحاب الحبال بأصحاب النبال: وما الخَصْبُ للأضياف أن يكثر القِـرَى، ولكنَّما وجهُ الكريم خصيـبُ.

وذات يوم كانا يقومان بالتجوال في أحد أحياء دمشق رفقة الوالي، فوقع نظر الإمبراطورة على حمار أبيض ناصع البياض، كأنه حمامة فاختة، فوقعت في غرامه بقانون القلوب المستطرقة، وطلبت من والي دمشق أن يأتيها به، لكي تأخذه معها ذكرى إلى بلادها، نهيقاً يدق في عالم النسيان، وناقوساً في دنيا الجرمان.

فأعلن الوالي الاستنفار، وجعل يبحث عن صاحب هذا الحمار، فعلم أنه لحسني تلّو، المعروف بأبي الخير آغا، وكان من وجهاء دمشق المعروفين، ومن ظرفائها، ويفاخر دائماً بأنّ له حبيبين هما: الحمار وحفيده حسني.

استدعى الوالي أبا الخير، ونقل إليه رغبة الإمبراطورة،فاعتذر، فعرض عليه شراءه منه، فأصرّ على الرفض، ولما اشتّد غيظ الوالي، قال أبو الخير بالحجة القاطعة، والشارة الساطعة: يا أفندينا، إنّ لديَّ ستة رؤوس من الصافنات الجياد، إن شئت قدمتها كلها إلى الإمبراطورة هديّة ما من ورائها جزية، أما الحمار، فدونه خرط القتاد وذبح العباد!

استغرب الوالي هذا الجواب، وعلَتْهُ غبرة الأسود الغضاب،وسأل أبا الخير: ولماذا هذا التعلق بالحمار الأبرص، أيبيضُ بعر الذهب؟

قال أبو الخير: يا جناب الوالي، إنْ أخذت الإمبراطورة هذا الحمار إلى بلادها، ستكتب جرائد الدنيا عنه، ويصبح الحمار الشامي موضع النكتة و السخرية، فيقول الناس: إن إمبراطورة ألمانية لم تجد في دمشق ما يعجبها غير الحمار!

فضحك الوالي حتى بانت أضراس العقل ولهاة الجنون، وانصرف أبو الخير راشداً آمناً.

واحتار والي دمشق، فذهب إلى الإمبراطور والإمبراطورة،ونقل لهما الحديث الذي دار بينه وبين أبي الخير آغا، فضحكا كثيراً، وأعجبا بظرف صاحب الحمار، وأصدر الإمبراطور من دمشق أمره بمنح أبي الخير وساماً، سمّاه وسام الحمار، وذاع أمر وسام الحمار وأبي الخير آغا زمناً طويلاً في الشام، وألقيتْ في الحمار قصيدة عصماء، ثم خَتمتُ بالعِبرة من هذه الواقعة وقلت: أولها هي غيرة أهل الشام على سمعة بلادهم، انظروا ما فعل الحمار الأشقر بالشام، إذ جعلها ولاية إيرانية ترفع فيها أصنام الأبواط بالغدو والآصال، ويوزع فيها الغزاة البراميل من فوقهم، والألغام من تحت أرجلهم، حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، والعبرة الثانية، هي قوة الأعراف، فالوالي، وهو نائب السلطان على الشام لم يحدّثْ نفسه بمصادرة الحمار،أو ضمه" للقيادة القطرية" التي لم تكن قد اختُرعت، أو اعتقال أبي الخير بتهمة إضعاف الشعور القومي، وتوهين روح الأمة، والصور الموثقة تبيّن قدوم الإمبراطورة فكتوريا منقَّبة، لأن السلطان العثماني كان حاكم الدنيا بجهاتها الأربعة، والغرب كان يقلّد الشرق، ثم تحدّيتُ الحاضرين السوريين، بأن يذكروا لي فضيلة واحدة فقط للوالي البعثي الجديد في دمشق، وقلت لهم: إن ذكر واحدٌ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا، فضيلةً لتنظيم النظام سعت به قدم، فسأحلق شعري على الصفر الإنكليزي، ونصف شاربي مثل أبي الليل في "صح النوم"، وأعلق البعرَ أقراطاً بأذني. وذكرتُ بعضاً من فضائل شكري القوتلي ومناقبه، وكان قد تخلّى عن رئاسة سوريا من أجل الوحدة مع مصر..

هنا نهض نوري غاضباً، وقال: خال زوّدتها... ثخّنتها، وفتح يديه على وسعهما وكأنه سيحضن ناقة عشراء، كناية عن الثخانة في الخازوق:

-قسماً بالله، الوالي طويل الرقبة الذي حكم سوريا بالمخابرات والاستقرار -وهي فضيلة كبيرة- أكثر عروبة ووحدوية من شكري القوتلي بألف مرة، فإذا كان القوتلي قد اتحد مع مصر وتخلّى عن الرئاسة، فإن طويل الرقبة اتحد مع دول عظمى مثل روسيا وإيران و تنازل للحشد الشعبي وبابا حسن.. فالزم حدودك، زوّدتها.. تذكّر أننا "كنا عائشين"، إنزلوا الناس منازلهم.

هنا.. سكت الجمع ممن ضمّ مجلسنا، من الميتين، وما لجرح بميتٍ أيلام.

سكتوا لحظة، ثم صفقوا تصفيقاً طويلاً أذهل الألمان، وتساءلوا عن سرِّ هذا الاستحسان لقول هذا الفتى المتوقّد كرأس الحية، واستخرج لهم أبو عارف لؤلؤة المعنى بسكين الترجمة من صدفة العربية، فانضموا إلينا بالتصفيق، الذي لم ينله حتى الحمار الأبيض في القصيدة التي قيلت في مدحه، ولا مندوب الاحتلال الروسي في قصر المهاجرين، إنّ عبيد البوط لأنجاس مناكيد.

وفاخرتُ صحبي بحبي لاثنين: حمار أبي الخير تلّو..... ونوري ونسيت "سيادة الثالث" الذي وصفه ترامب بالحيوان وقارنت بين حمار أبي الخير وبين حيوان ترامب الذي لم يسبق لسوريا والمنطقة وكوكب الأرض أن رأى مثله، فلعله "دابة الأرض"!

1
التعليقات (1)
المصرى أفندى
الإثنين، 17-04-2017 10:17 م
الأستاذ أحمد عمر المحترم .. خفة دمك اليوم مالهاش حل .. أحسنت وشكرآ جزيلآ