قضايا وآراء

وهل الكفر أعظم جرما من سفك الدماء؟

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
مما يأخذه غير المؤمنين على الدين أنه يهتم بالقضايا اللاهوتية أكثر من اهتمامه بالقضايا الاجتماعية المرتبطة بمصلحة الإنسان، فالدين وفق نظرتهم يجعل محور نجاة الفرد أو هلاكه إيمانه بالغيب وليس سلوكه الاجتماعي ونفعه الإنساني، والقرآن يركز على الإيمان بالله والملائكة وإقامة الشعائر أكثر مما يركز على قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية!

مثل هذه الأسئلة تخطر بعقلي حين أمر بآيات مثل: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً" ما هو البعد الواقعي لمثل هذه المسألة حتى يجرمها القرآن إلى هذا الحد؟ أليست المجازر المروعة من حولنا أشد جرما من معتقد الإنسان الداخلي سواءً كان حقا أو باطلاً؟

يؤكد الفهم الشائع للمسلمين تجاه دينهم هذه النظرة السلبية للدين، فالشعور الجمعي للمسلمين يغضب للمسائل ذات الاتصال المباشر بشعائر الدين ومظاهره ورموزه أكثر مما يغضب من الظلم السياسي، وتجد من المتدينين من يتسامح إزاء مشكلة الاستبداد ويغفر للحاكم ظلمه وسرقته للمال العام إن افتتح هذا الحاكم مسجداً أو أدى العمرة أو ظهر أمام الكاميرا مستمعاً إلى خطبة الجمعة، ويحتفي الجمهور بأخبار تدعي أن والدة الطاغية يهودية أو أنه أخطأ في تأويل آية وكأن دليل إدانته لم يكن حاضراً! لقد حدث الأسوأ فعلاً، وليس بعد سفك الدماء ذنب.  

هذا الاختلال في فهم أولويات الدين كان مدخلاً لإحداث اختلال تاريخي فظهر مثال المستبد المتلفح بثوب ديني الذي تباركه الشعوب وتغض الطرف عن تجاوزاته، لأن هذا الحاكم أظهر صورة التدين من اعتناء ببناء المساجد وتيسير سبل إقامة الشعائر وتقريب الوعاظ إلى بلاطه واعتناء بأخلاقيات اجتماعية مثل حظر الخمور والدعارة فرضي الناس منه بهذا النصيب ورأوا فيه حامي الدين وحارس العقيدة فلم يسألوه بعد ذلك عن عدل وشورى وسلطان للأمة.

نرجع إلى السؤال الرئيس: أين تقع القضايا الكبرى المتمثلة في سفك الدماء والإفساد في الأرض من اهتمامات الدين؟ وهل قدم الدين شعائره مثل الصلاة والصوم على الواجبات الاجتماعية مثل إقامة العدل والإصلاح في الأرض؟

في المشهد الأول لاستخلاف آدم على الأرض كان تخوف الملائكة من هذا الكائن إفساده في الأرض وسفكه للدماء: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" ولو كانت هناك جريمة أعظم لاستشهدت بها الملائكة، وإشعال الحروب مذموم في ميزان القرآن: "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين"، ومهمة إرسال الأنبياء كانت إقامة العدل والإصلاح بين الناس: "ليقوم الناس بالقسط"، "ألا تطغوا في الميزان"، "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت"، "فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ"، ويمكن حشد مئات الآيات الأخرى الداعية إلى الإصلاح والعدل والناهية عن الظلم والإفساد.

والقرآن يعدل المفهوم النمطي للعبادة بأمثلة لأفراد استثمروا  قوتهم في إقامة العدل ونفع الناس مثل يوسف الذي كانت عبادته في حسن إدارة الأزمة الاقتصادية وعدالة توزيع القوت على الناس، وذو القرنين كانت عبادته في العدل في حكم الشعوب التي امتد إليها سلطانه بمكافأة المحسن ومحاسبة المسيء وتأهيل الشعوب الضعيفة.

حتى القضايا التي يظهر أنها ذات طابع لاهوتي مثل قضية التوحيد والشرك فإنها تحمل أبعاداً اجتماعيةً وسياسيةً، ففرعون الذي قال: "أنا ربكم الأعلى" أراد بهذا الادعاء تعزيز سلطانه السياسي وإطلاق العنان لنفسه للعلو والإفساد في الأرض، فادعاء الألوهية يعني الاعتقاد بأنه لا ينبغي أن يكون له منازع في الحكم، وهو ما يظهر جلياً في الحجج التي ساقها لمواجهة دعوة موسى: "وتكون لكما الكبرياء في الأرض"، "وقومهما لنا عابدون"، "وإنا فوقهم قاهرون"، "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد".

لم تكن مشكلة فرعون مع إله السماء أن يصلي له بنو إسرائيل ويسبحونه بل أن هذا الإله يأمره بالرجوع إلى حجمه البشري وتحرير بني إسرائيل من استعباده لهم.

وليست قصة فرعون استثناءً، فالقرآن يذم أهل الكتاب لأنهم "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" فعطلوا عقولهم ومسخوا إرادتهم الحرة التي وهبهم الله إياها فأطفأوا نور الإيمان في قلوبهم وأحلوا محله الاتباع الأعمى، والقرآن يذم تحول البشر إلى طبقات من الأرباب والعبيد ويحرض الناس جميعاً ليكونوا عباد الله إخواناً: "وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل"، "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم، ودعوة أهل الكتاب إلى كلمة السواء يحقق معنى المساواة الإنسانية فالبشر يتخذون بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ليس بالسجود والركوع إنما بالهيمنة والاستعلاء: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً و لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله".

هكذا يظهر معنى التوحيد في القرآن؛ تحرر نفسي وقوة روحية في مواجهة استلاب الكرامة ومساواة إنسانية تلغي امتيازات السادة والكبراء وتبطل شرعية المستكبرين في الأرض.

لكن هذه المعاني العميقة سطحها من ظنوا أن أقصى غاية للدين هي محاربة الشرك القبوري والجدل في الأسماء والصفات وغفلوا عن الشرك السياسي الذي هو جوهر الأزمة الإنسانية ومدخل كل علو وإفساد وسفك للدماء.

في التأكيد على بشرية عيسى عليه السلام يتحقق مبدأ التساوي الإنساني فليس ثمة أي آلهة على الأرض، وهذا التنزيه يحرر العقل من الوثنية ومن الأوهام والظنون، فمفهوم الإله يراد له أن يظل تجريدياً متعالياً عن الأجسام والتشبيهات حتى يظلش الإنسان قادراً على التسامي الروحي وهو يؤمن بأن الإله فوق أي صورة تخطر بباله.

يذكر القرآن مفهوم الكفر ويتوعد "الذين كفروا" بالعذاب الأليم، وهو ما يعزز شبهات القائلين بالطابع اللاهوتي للدين، فالقرآن يهتم بإدانة الكفر الذي هو موقف اعتقادي أكثر من إدانة مشعلي الحروب.

الكفر بحسب السياق القرآني لا يعني قناعةً عقليةً، بل هو حالة إنكار وجحود واستعلاء، وهو ما يجعله أكبر من موقف اعتقادي داخلي. لا يطلق القرآن صفة كافر على كل غير مسلم بالضرورة، بل يطلقها على الذي تبينت له الآيات فأنكرها حسداً واستكباراً: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين"، وما دام الكفر جحوداً وإنكاراً عن قصد فهو اعوجاج داخلي يؤسس للظلم الخارجي: "والكافرون هم الظالمون"، فالذي ينكر ما يعرف في قلبه أنه حق إنسان خسر التصالح مع نفسه فتنطلق منه طاقة عدوانية: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا"، "وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر".

الكفر داخل النفس هو نقطة التأسيس للإفساد والظلم الخارجي، ومن الجدير تدبره أن جميع أمثلة الكفار الذين يذكرهم القرآن هم في حالة عدوان خارجي: "ولولا رهطك لرجمناك"، "لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا"، "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون".

يكاد القرآن يخلو من ذكر مثال الكافر المسالم، لأن الكفر نقيض السلام إذ إنه مقت وإنكار وجحود داخل النفس يطلق طاقةً عدوانيةً خارجها، وهي ملاحظة ينبغي أن نعيد في ضوئها فحص مفاهيمنا التقليدية حول من هو الكافر.    
   
إن البعد الروحي مركزي في الدين، وهو ما يفسر الحضور الواسع للصلاة والصوم والإيمان بالغيب وذكر الله في القرآن، لكن هذا البعد الروحي معزز ومعمق للبعد الواقعي وليس لاغياً له، فالبعد الروحي يمثل العالم الداخلي للإنسان، والعالم الخارجي ما هو إلا ثمرة العالم الداخلي لذلك يبدأ الدين إصلاح الحياة من إصلاح جوهر الإنسان لأنه يريد إصلاحاً جذرياً عميقاً، فالنفس الممتلئة سلاماً تفيض سلاماً، والنفوس المضطرمة بنيران الحقد والضغينة هي التي توقد الحروب وتسعى في الأرض فساداً.

إن ما تمنحه العبادات الروحية للإنسان هو الطمأنينة والرضا والأمن في نفسه وهو ما سيؤثر بالضرورة على سلوكه الخارجي: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً".

 والحقيقة التاريخية تخبرنا بأن الغالبية العظمى من الحروب والصراعات والمذابح ذات طابع علماني، وحتى الحروب التي سميت دينيةً أشعلها متعصبون جاهلون أو خبثاء يستغلون اسم الدين وليس الذين تذوقوا روحانية الدين، وهذا طبيعي إذ إن من يشعلون الحروب ويفسدون في الأرض ويقتلون بغير الحق بالضرورة من قساة القلوب الذين لم تلن قلوبهم يوماً لذكر الله ولم تغشاهم طمأنينة الروح.

وتأكيداً على أن الحقيقة المركزية في الدين تتصل اتصالاً وثيقة بإقامة العدل والإصلاح في الأرض فقد جعل مؤشر صلاح العبادة أثرها المرئي في واقع الحياة ولم يقم وزناً لمظاهر التدين إن لم تستند إلى إيمان داخلي واستقامة خارجية: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب..." ، و جعل العمل مصدق الإيمان ليقطع الطريق على الادعاءات الكاذبة التي تستتر تحت عباءة التدين دون أن يتبعها استقامة في الحياة: "إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين"، "أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم"، " قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين".

لا يعرف القرآن مصطلح الإيمان معزولا عن الحياة، بل يربطه بالحركة الإيجابية: "وعملوا الصالحات" وهي كلمة تشمل كل أنواع الخير والبر التي يعرفها العقل الإنساني بدءًا من إطعام اللقمة و الابتسامة وإماطة الأذى وانتهاءً بإعمار العالم وقيادته بالعدل والرحمة. 

إن الإصلاح في الأرض وإقامة العدل والتعاون على البر وفعل الخيرات ونشر السلام بين الأنام هي غايات الدين الكبرى، وفي المواطن التي يبدو فيها أن معتقدات الدين وشعائره على غير اتصال مباشر بقضايا الحياة فإنها تعمل على إصلاح العالم الداخلي للإنسان وتزكية نفسه لأن بناء التصورات الداخلية هو الذي يمهد لإنشاء العالم الخارجي تماماً مثلما يقيم المهندس البناء في خياله قبل أن يقيمه على الأرض، فإذا امتلأ قلب الإنسان بالمعاني الخيرة والرؤى الإيجابية تحررت منه طاقة نشطة انطلق بها في دروب الحياة معمراً و مصلحاً و داعياً إلى العدل والخير والسلام.
2
التعليقات (2)
ابرايم يوسف
الأحد، 21-05-2017 09:11 م
وضح بالل عليك يا هيثم اين نقطة خلافك مع الاخ احمد بالضبط، لو سمحت حتى يكون حوار بناءا، وابتعد عن التشكيك والشتم افضل
هيثم هلال
الخميس، 13-04-2017 02:28 ص
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء . . ولو سكت من لايعلم سقط الخلاف . .فلا تتحذلق علينا وتعلم دين الإسلام أولاً فالفقه ليس بأقوال الرويبضات الذين صنعهم حكامهم أمثالك ليعلموهم من الدين أحكام الحيض والنفاس ليس غير . فنصوص السنة النبوية التي تتعمد تجاهلها تدل على قاعدة مقطوع بها هي : الأصل حرمة مال المسلم ودمه ..فمن انتهكها من الناس فقد فارق الملة . . فلا تجعل القرآن غرضا ترميه بسهامك مستغفلا من هم أمثالك في سخافة الفكر وضحضاح العلم .

خبر عاجل