قضايا وآراء

قمة عربية بلا روح

محمد مالكي
1300x600
1300x600

لم تكن القمة العربية  الثامنة والعشرون، الملتئمة في منتجع " البحر الميت" في المملكة الأردنية الهاشمية يوم التاسع والعشرين من شهر مارس الماضي, مختلفة عن سابقاتها من القمم، التي تواترت الجامعة العربية على تنظيمها منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، بل ربما جاءت نتائجها أضعف بكثير من قمم سابقة، اللهم إذا استثنينا بعض المفاجآت الدبلوماسية والسياسية التي ميزت أشغالها، وفتحت الباب أمام التخمينات والتأويلات التي "لا تقدم ولا تؤخر".. فهي إجمالا قمة بلا طعم ولا روح.

ما كان سيمنح القمة روحا جديدة، ويقدم للمجتمعات العربية صورة مغايرة عن تلك التي ترسخت في أذهانهم، أن يعترف القادة العرب بحقيقة الوَهن الذي أصاب بلدانهم، والانقسام الذي ينخر منطقتهم منذ سنوات، وشتى أصناف المآسي التي ألمت بأبنائهم، لاسيما في بؤر الصراع والتوتر والحروب.

إن تاريخا جديدا يُكتب أمام أنظار العرب، وفي أحيان كثيرة بدعم مقصود من بعض نُخبهم القائدة، وهو في كل الأحوال تاريخ لا يشرف المراحل المُشرقة في ماضي المنطقة، وما تختزن في الحاضر من إمكانيات مادية وبشرية.. فمنذ سنوات تعالت الأصوات المنبهة على أن العرب "خرجوا من التاريخ أو هم على عتبة الخروج منه"، كما حصل لحضارات فرط قادتُها في المحافظة على أرصدة قوتهم ومقومات استمرارهم، فتحولوا إلى أرقام لا قيمة لها في ركب الإنسانية.. ومنذ أعوام، وبشكل أكثر خلال السنوات الأخيرة، تصاعدت دعوات نعي الجامعة العربية، والإعلان عن موتها النهائي، والمطالبة بالتفكير في نظام جديد يُعيد الاعتبار للمشترك العربي، ويُخلصه من مصادر التكلس وعدم الفعالية واستدامة العجز التي لفت بعنقه، وأعاقت حظوظ  استقامته ونجاحه. 

طرحت على نفسي سؤالا وأنا أفكر في كتابة هذا العمود، وهو سؤال الهوية والمصير العربيين، وأميل إلى الظن أن طبيعة مكان  انعقاد القمة ودلالات الجغرافيا الحاضنة له، أي "البحر الميت"، تختصر، بما يكفي، خصوصية هذا السؤال وأبعاده الحارقة، فقلت مخاطبا نفسي: "ألم يُشاهد القادة العرب المشاركون، وهم يتوجهون براً من العاصمة عمان إلى البحر الميت برا (حوالي أربعين كيلو)، أرض فلسطين؟ ألم يستنشقوا الهواء القادم من أول بواباتها "أريحا"؟ ألم يشاهدوا، إذا كان الجو صافيا"، المستوطنات الإسرائيلية الجاثمة على أراضي الفلسطينيين، وكلها نخيل وأشجار مُثمرة؟ ألم يتألموا، وهم يشاهدون ليلا أضواء فلسطين على امتداد شريط المستوطنات في أريحا؟

وأضفت مُسائلاً نفسي: لا أعرف هل شاهدوا هذه الأشياء، أم لا؟ وكيف كان شعورهم حيال ما شاهدوا؟ ففي كل الأحوال لا يمكن لمن زار البحر الميت، أو أطراف العاصمة الأردنية عمان، بعقله ووجدانه، ألا ينتابه شعور بالألم وهو يُجاور فلسطين وأمكنتها التاريخية.. أذكر شخصيا كلما كنت أشارك في مؤتمر أو ورشة أو لقاء علمي في منتجع البحر الميت، كم كنت أشعر بهذا الألم، وكم كان يخترقني شعور موجع ليلا وأنا أراقب أضواء أريحا من نافذة أو شرفة فندق الإقامة، أو عند الصباح الباكر وأنا أشاهد الضباب الخفيف المنتشر على المساحات الخضراء لمزارع أريحا التي اغتصبها الإسرائيليون عُنوة.

وفي السياق نفسه، أذكر مرة وأنا في دعوة عشاء أحد الفضلاء الأردنيين من أصل فلسطيني في بيته العامر في منطقة "السلط"، غير البعيدة كثيرا عن العاصمة عمان، أخذني من يدي وقادني إلى سطح منزله الفسيح ليريني أضواء القدس ليلا، قائلا، وقد دمعت عيناه على كبره: "ها هي فلسطين التي هُجرنا منها قسرا"، وأضاف: "لقد اشتريت أرض هذا المنزل وبنيته في هذه الربوة  خصيصا لأطل على مدينة القدس وأرى أضواءها كل يوم، أو كلما اشتد الحنين بداخلي، وتملكني الشوق إلى فلسطين". 

 الشاهد هنا أن فلسطين في حاجة ماسة إلى إرادة عربية حقيقية وصادقة تُدعم تحريرها، وتُسند أهلها كي يكون لهم مكان فعلي تحت الشمس.. وهو ما عجزت القمم العربية عن إيجاده حتى الآن. صحيح أن القضية الفلسطينية تصدرت البنود السبعة عشر الواردة في البيان الختامي، الصادر عن القمة الثامنة والعشرين في منتج البحر الميت (29 مارس 2017)، حين أكد معدوه على "حل الدولتين"، والتشديد على العودة إلى مشروع المفاوضات كما صاغته قمم سابقة، وتحديداً قمة بيروت في لعام 2002.

أما القضايا العربية الأكثر تعقيدا، فعبر البيان الختامي للقمة بلغة عامة، من قبيل سعي العرب إلى إيجاد "حل سلمي للأزمة السورية"، والحفاظ على "تماسك العراق ووحدة اليمن"، و"دعم اتفاق الصخيرات" بالنسبة للأزمة الليبية، و"القضاء على الإرهاب"، و"حسن الجوار"، وغيرها من الملفات الضاغطة على الوضع العربي.

والواقع أن إمعان النظر في كل هذه القضايا يُقنع بأن ثمة خيطا ناظماً يجمع بينها كاملة، عنوانه ضعف الإرادة العربية، وافتقاد العرب لرؤية قادرة على جمع الطاقات، وتعظيم أرصدة القوة لدعم المشترك العربي وتثمين مقوماته، بل يمكن الجزم، وهذا أخطر ما في الراهن العربي، أن النخب القائدة العربية ساهمت، بإرادة أو بدونها، في إضعاف ذاتها، والعمل على ترهل أرصدة قوتها، وفي أحيان كثيرة مولت سيرورة الإضعاف والترهل التدريجيين، ورعت آليات ووسائل التنفيذ، ومن هنا لن يستطيع العرب إعادة بناء إرادتهم، وتاليا إعادة تجميع أرصدة قوتهم، دون القطع مع هذه المنهجية التي أضرت بالبلاد والعباد..

أما الجامعة العربية فليست في النهاية سوى مؤسسة أو فكرة، الذي ينفخ فيها الروح ويحولها إلى واقع حي ومعنى جماعي هم الأعضاء دون سواهم.. ما عدا هذا ستتوالى القمم العربية، ويستمر القادة في تنظيم اللقاءات وتبادل المصافحات، وإعادة الكلام المكرر، لكن ستفقد المجتمعات ما تبقى لها من الأوطان، أو ستبقى حية في أوطان بلا روح.
التعليقات (0)