قضايا وآراء

اليسار المصري.. الإيديولوجيا قبل الوطن!

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
أحد أهم قيادات الحركة الطلابية الكبيرة في أواخر الستينيات المهندس (وائل عثمان) أكر في شهادته المهمة (تاريخ الحركة الطلابية) إنه اكتشف كراهية رفاقه من هذا الجيل - خاصة في هندسة القاهرة، اكتشف كراهيتهم لموضوع الدين في جوهره ولم يتطرق حقيقة إلى أبعد من ذلك في فهم طبيعة الكراهية، ولم يتطرق أيضا إلى مسالة الكفر والإيمان، وحكى أنه في حفل تأبين المناضلة الراحلة (سهام صبري) أحد قيادات الحركة الطلابية، قام ليقول كلمة ابتدأها بسم الله الرحمن الرحيم ودعى لها بالمغفرة والرحمة فإذا به يسمع من حوله همسات وغمزات طوال الكلمة، حين ذكر المهندس وائل أسماء القيادات الكبيرة للحركة الطلابية خاصة أيام مظاهرات 1968 م وجدتني أعرفهم جميعا وقد كانوا قبل 25 يناير يتحدثون عن ضرورة توحد التيار القومي والإسلامي والوقوف في وجه الدولة المستبدة ومشروعها للتوريث، بعد ثورة يناير وما قدمته من (فرز تاريخي) هو الأخطر في تاريخنا الحديث خاصة تلك المرحلة اللعوب التي صاحبت مجيء التيار الإسلامي العريض إلى (سدة الدولة المصرية) وجدوا أن الرياح قد هبت، وعليهم اغتنامها عملا بالمثل الشهير (إذا هبت رياحك فاغتنمها)، وليس هناك ريح عاصفة تتولى الخلاص من الإسلاميين كلهم أجمعين أنسب ولا أمثل من هذه الريح وفي هذا التوقيت، فظهرت منهم كل ألوان الكراهية المسمومة التي كانت تخفي قدرا هائلا من العداء (للفكرة الدينية) بتعبير المفكر الكبير مالك بن نبي. 

ولتوسيع دائرة المعنى سياسيا وتاريخيا سنجد أنفسنا أمام الحقيقة العارية التي أظهرت نفسها بوضوح شديد في المقدمات المبكرة لمرحلة ما بعد يناير، أي تيار أو تنظيم سيأتي في الحكم بعد الجمهوريات الثلاث (جمال وأنور وحسني) سيتربع على جبل (القاذورات) الراسخ ولن يتمكن من إتمام أي مقاربة وتطبيق مع فكرة الإصلاح والنهوض في وجود مجتمع متداع متهاو منحط ومفكك، كما المجتمع ما بعد مبارك، وارجع إلى ما كتبه روبرت سبرينجبورج في كتابه الشهير عن دولة مبارك. 

يضاف إلى ذلك أن (القوات المسلحة) هي القرص التاريخي الصلب فالمشهد كله، هم يوقنون أنهم هم من أزاح أسرة (محمد علي) عن الحكم _1805-1952م_ عشية الليلة المباركة 23 يوليو!؟ بغض النظرعن جهاد وكفاح كبار رجال الحركة الوطنية المصرية من 1919-1952 ومن قبل ثورة 1919م أيضاً. 

وهم من صنع (فكرة الجمهورية) في تاريخ مصر الحديث وهم من قامت على أكتافهم (الذات المركزية للدولة الحديثة) جيش وشرطة وقضاء ومخابرات وبيروقراطية عميقة بأجهزة متضخمة متغلغلة في العمق الاجتماعي للسلطة وصفوتها المغلقة التي تدير وتستدير تسليما وتسلما نفسها بنفسها ولنفسها ويصعب أن تمنح مقاليدها لأحد من خارجها بسهولة (ديمقراطية) خاصة إذا كان تيارا أو تنظيما، فقد كانت تلك الدولة قد استمدت قدرا كبيرا من هيبتها وسطوتها من فكرة الرفض الحاد للمفهوم الديموقراطي للسياسة، وما من مصري بسيط الشأن في الثقافة والمعرفة السياسية والتاريخية إلا وكان يعلم تلك الحقيقة بيقين نهائي.

اليسار المصري خاصة من جيل الستينيات وجد فيما أسفرت عنه تلك الأمور الملتبسة التي هي من طبائع الثورات تاريخيا، وجد ساعة من تلك الساعات التي لا تتكرر كثيرًا عبر عصر بأكمله أو مرحلة بأكملها وأعيدك إلى ما كان يكتبه مثلاً عبد الرحمن الأبنودي وجابر عصفور وبهاء شعبان وكل تلك الأسماء المكسورة، لن تجد حالة اختلاف أو خصومة إن شئت من تلك الحالات التي يمر بها أي مجتمع في مراحل انتقاله التاريخي انعطافًا من مرحلة إلى مرحلة خاصة مع ظلال ثورة جماهير أغلبها شباب أخضر يافع وغض لا يملك ذخيرة كافية لفهم الأشياء ورؤيتها على حقيقتها ..لا.. لن تجد اختلافا أو خصومة فقط ستجد القبح المصفى من أي شائبة الذي يعكس عداء شديدا للفكرة الدينية.

سيلفت انتباهك أن هذا العداء يستمد عمقه الغويط من عدائهم التاريخي لــ (الفكرة الدينية) ذاتها ودلالاتها الكبرى في فهم المنشأ والمسار والمصير للإنسان وتبعات هذه الدلالات ومسؤوليات، وإن تجسد وتمثل في عداء واضح لـ (تيار سياسي إسلامي) هم بالمناسبة إمعانا في التضليل والمكاذبة يقولون تيار (الإسلام السياسي) مع ما تحمله الجملة من مخاتلة وغموض وسوء أدب مع الدين نفسه (تيار سياسي ينتسب إلى الإسلام) غير (إسلام ينتسب إلى السياسة) ذلك أن الإسلام أكبر وأعظم وأجل كثيرا وبما لا يقاس من قياسات أو يوزن بأوزان من أي سياسة أو فكر أو فن أو اقتصاد، وإذا علمنا أن (الإسلام أكثر من دين.. باحتوائه على الحياة كلها) كما قال لنا العلامة علي عزت بيجوفيتش وشرحه لنا بأعمق وأوسع زوايا النظر العلامة عبد الوهاب المسيري. 

يعدها سيأتون مخاتلين ومتلاعبين بالتعبير الشهير للمفكر والمناضل الصادق أنطونيو جرامشي الذي قتله الطاغية (موسوليني) عام 1937م بعد أن نزفت دماغه بالكثير من دمائها وأفكارها وأقصد تعبير (الكتلة التاريخية الحرجة) الذي يصف فيه خصال وفضائل (المثقف العضوي) حين يكون طليعة تناضل ضد (الدولة الكاسرة) بأجهزتها العاتية العنيفة وما صاغه في فلسفته البسيطة حول ما أسماه بـ(البراكسيس) بما تحمله من تحرر ووعي بالمتناقضات. 

أين كل ذلك من دعوتهم صراحة للعصف بالديمقراطية إذا أتت بمن يختلفون مع إيديولوجيتهم المشروخة، هم فضلوا إزهاق التجربة الديموقراطية على مذبح إقصاء وتصفية التيار السياسي الإسلامي ثأرا وتشفيا بغض النظر عن فكرة الصالح العام في مفهومه الأخلاقي والتاريخي، فبعد الأكذوبة الشهيرة التي روجوها عن توظيف (السادات) للتيار الديني لضرب اليسار، هم وبنفس الضلالات القديمة خططوا وروجوا لهدم تجربة الديمقراطية في بواكيرها الأولى رغم الأخطاء الكبرى التي صاحبتها، لم يستطيعوا مغادرة (أكاذيبهم الخدوعة) بسهولة ولكل جيل أكاذيب يدين بها كما يقولون، جرامشي يا سادة يا مناضل كان يدعو إلى تجاوز (الإيدولوجيا) في المراحل الحرجة، لكن اليسار المصري وبتوصيف وصفته المناضلة الراحلة (أروى صالح) يمتاز دائما بعجزه العميق عن بلوغ نقطة التقاء مع الواقع، ودائما ما يجد في السلطة ملاذه وملذاته. فعلا الانحطاط الخلقي ابن شرعي للانحطاط العقلي، كما قال لنا خالد محمد خالد في (لكي لا تحرثوا في البحر).
التعليقات (0)