كتاب عربي 21

20 مارس التونسي يوم عادي أو أقلّ من ذلك

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
في نهاية السبعينات أنتجت الوكالة الوطنية التونسية للتبغ والوقيد وهي وكالة عمومية ذات أهداف ربحية ماركة جديدة من التبغ التونسي سمتها باسم ذكرى وثيقة الاستقلال (20 مارس) وكانت نوعية التبغ ثقيلة خانقة وبسعر شعبي فكان الناس يدخنونها ويلعنونها قائلين للتبغ (يا خامج يا قارس لو كان فيك خير ما يسموك 20 مارس). وحتى عندما أصدرت طبعة مخففة من هذا التبغ بنفس الاسم ظل تبغا خانقا يذكر التونسيين بأنهم ليسوا مستقلين تماما وليسوا تحت الاستعمار لكنهم لا يتحكمون في بلدهم. وفي هذه الأيام يشاهد التونسيون السفير الفرنسي يتجوّل في بلدهم ويرافق رئيس حكومتهم ويدخل كل الزوايا ويحشر أنفه في الكبيرة والصغيرة حتى بدأت السوشيال ميديا تتحدث عنه كمرشح قادم للرئاسيات لفرط نشاطه الذي يذكر بنشاط مرشح رئاسي يقوم بالدعاية لنفسه قبل الأوان. فهل (يتكيّف) التونسيون استقلالهم أم تخنقهم الذكرى ويتصبرون بشكل الاستقلال دون مضامينه؟

شورت كات سياسي أمام المقاومة

يستعمل التونسيون عبارة "القَصَّة العربي" للإشارة إلى الاختصار السريع لأمر كان يجب استدامته ليصل إلى مداه. وهم يتذكرون الآن وبعد أن انطلقت الألسن بعد الثورة أن معركة التحرر الوطني قد تم اختصارها بمفاوضات سياسية غير ناضجة وانتجت حالة من الاستقلال الشكلي ولا يزال الأمر جرحا لم يداو. فقد خرج بورقيبة عن إجماع مقاوم عمّ منطقة المغرب الكبير (خوفا من أيتام فرنسا وأصحاب قضية الاستعمار العربي لشمال أفريقيا الامازيغي صرنا نتجنب القول بالمغربي العربي) ودخل مفاوضا منفردا مع فرنسا في حين كان الجزائريون بسند من مصر ومن أحرار العالم يشعلون الأرض تحت أقدام أقدم استعمار في المنطقة. استغلت فرنسا استعجال الزعيم ومنحته موقعا متقدما ينهي حالة المقاومة المسلحة بل وفرضت عليه أن يلقي المقاومون أسلحتهم قبل أي إمضاء أي اتفاق وقبل الحصول على أي مكسب فظل ذلك وصمة في تاريخ نضال الشعوب التائقة للحرية وهو ما قسم الصف الوطني نصفين بين شق بورقيبة وشق صالح بن يوسف (الأمانة العامة للحزب ) فاندلعت حرب أهلية قدمت فيها فرنسا ورقة أخرى لبورقيبة لنصرته وتفتيت الصف المغربي المقاوم فكانت وثيقة الاستقلال التام الممضاة بتاريخ 20 مارس 1956.

هذه الوثيقة غائبة ولم تنشر بالجريدة الرسمية ولم يعثر عليها أبدا وقد رفعت دعوى للمطالبة بها وكشفت حكومة ما بعد الثورة أن الحكومة لا تتوفر على نسخة منها في أي أرشيف وطني. مما يجعل التونسيين يتندرون بحالة استقلال أقل من شكلي لم تقم فيه فرنسا بأكثر من سحب جيشها الظاهر وتعويضه بجيش الخبراء الذين صنعوا البلد على هواها. وقدموا لها ما لم تستطع انجازه طيلة 75 سنة من الوجود العسكري المباشر.
 
في كل عيد استقلال يتساءل التونسيون هل نحن مستقلون فعلا بالوثيقة وبالفعل؟ ومن المسائل التي لا تزال تثير جدلا وحيرة هي لماذا سارع بورقيبة إلى اختصار عملية المقاومة وإلقاء السلاح قبل الحصول على ما يريد خاصة وأن المقاومة الجزائرية كانت تقصم ظهر فرنسا وتسمح بشروط تفاوض أفضل؟

هذه الفترة لا تزال غامضة وقد كان ممنوعا الخوض فيها أو التشكيك في مسارها ورغم الحرية المكتسبة من الثورة فإن عمل المؤرخين لم يلمّ بعد بكل التفاصيل وقد زادت شهادة المقاوم حمادي غرس (من بنزرت) أمام هيئة الحقيقة والكرامة في القاء المزيد من الشك والريبة حول وطنية بورقيبة. وعند العجز عن الإجابة يتجه التونسيون إلى السؤال الثاني ماذا تحقق من الاستقلال لشعب تونس؟

اتفاقيات اقتصادية قديمة لصالح فرنسا فقط

انفجرت بعد الثورة معلومة مهمة صبت في خانة التشكيك في الاستقلال وفي الزعيم. أبرمت الدولة الاستعمارية مع باي تونس منذ سنة 1944 اتفاقية جائرة تحصل فرنسا بمقتضاها على منتوج الملاحات التونسية الكثيرة بسعر فرنك فرنسي واحد فقط لهكتار من الأرض المخصصة لإنتاج الملح. وقد ظلت الاتفاقية سارية حتى الآن وتم تجدديها بشروط الاتفاق الاول رغم مرور أكثر من ثلاثة أرباع قرن عليها وتغير سعر الملح في السوق الدولية أضعافا. ولم تفلح حكومة حمادي الجبالي (ما بعد الثورة) في إعادة مناقشة الاتفاق وقياسا على اتفاقية الملح تبيّن أن اتفاقيات الطاقة الاحفورية مدفونة تحت غموض الإدارة العميقة ولم تفلح حركة (وينو البترول) في كشف الغموض بل تحدث وزراء في حكومة الحبيب الصيد (2015) عن انزعاج سفير دولة عظمى من الحركة التي انتهت بسرعة كأن الضغط طال أكثر من جهة. التونسيون لا يعرفون صيغ الاتفاقيات التي أبرمتها دولتهم بخصوص التصرف في مواردهم الاقتصادية خاصة في مجال الطاقة وهم يكتشفون كل يوم أن سفراء فرنسا المتتابعون يحشرون أنوفهم في الصغيرة والكبيرة المتعلقة بالاستثمار في الطاقة والمناجم والصناعات المنتجة ذات التشغيلية العالية. بل إن توجيهاتهم ومنذ الاربعينات كانت بمزيد الاستثمار في السياحة الشاطئية وهو قطاع خدماتي هش ومعرض للأزمات كما أنه نشاط مدمر لبلد لا يحوي ثروات مائية كافية بل كل قطرة ماء توجه للسياحة تكون على حساب الزراعة التي تعتبر فعلا عامود الاقتصاد التونسي الفقير إلى التصنيع. فاذا مروا إلى الثقافة أو التعليم اكتشفوا أن عقولهم تصنع في فرنسا ويعبث بتاريخهم في المدرسة العمومية التي يمولونها من حر مالهم.

تونس نسخة ثقافية رديئة من فرنسا

فرنسا صنعت وتصنع عقول التونسيين بشكل شبه  كلي ونهائي وذلك بعد الاستقلال لا قبله. لقد عجزت وهي جاثمة بجيشها على المساس بثوابت البلد الثقافية والتي كانت تقاوم بأصالتها العربية الإسلامية منذ نهاية القرن التاسع عشر فلم تجرؤ فرنسا على المساس بمؤسسة التعليم الزيتوني ولا المساس بالأوقاف (الاحباس) ولم تمس من المكانة الاعتبارية للغة العربية فلما انسحبت بجيشها مكنت لأطروحتها الثقافية بطرق  كثيرة وكان للغة الفرنسية دور مركزي عبر المدرسة التونسية نفسها(مكسب الاستقلال) ففقد البلد لغته وعدل لسانه على لغة لا هي فرنسية تامة ولا عربية أصيلة ويمكن الجزم أن التونسيين بلا لغة الآن وربما نجد في لغة مالطة ألفاظا عربية أكثر مما نجد في اللغة التي يستعملها التونسيون الآن وإلى ذلك فرض مثقفو فرنسا في تونس مواضيع لا تطرح إلا في الساحة الثقافية الفرنسية وتجري هذه الأيام معركة كسر عظم في إصلاح التعليم لفرض الفرنسية بشكل أوسع وتخفيف وزن اللّغة العربية إلى جانب قضايا أخرى كثيرة ليس أقلها الصيغة الفرنسية من الجندرية التي انتحت جيلا من المخنثين والسحاقيات العاجزين عن القيام بدولة أو بناء مجتمع سليم.

إذن أين الاستقلال السياسي والثقافي؟

في عالم معلوم ومنفتح يشعر غالب التونسيين بأنهم هامش فرنسي بسيط في الاقتصاد وفي الثقافة وفي السياسة الدولية فلم يعرف لأي ديبلوماسي تونسي موقف متميز من قضايا العالم مختلف عن الموقف الفرنسي في نفس القضية. الحرية التي اطلقت الألسن جعلت موضوع الاستقلال على كل لسان ولكن النقاش يتحول إلى سخرية سوداء عاجزة عن الفعل والتغيير وطرح الاتفاقيات الشكلية للنقاش الجدي المفضي إلى استقلال حقيقي والنخبة السياسة تمر من باريس قبل أن تعرض نفسها على السلطة وحتى النقابة التي تتبجح بأنها كانت جزءا أصيلا في معركة الاستقلال تلقت رشوتها الجزيلة بجائزة نوبل وذهبت تشكر رئيس فرنسا قبل أن تقابل رئيس بلدها فعرضها مهانة في إحدى ممرات قصر الإليزيه ومارس سلطته بإذلالها بالكامل وعادت فرحة مسرورة بمبلغ الجائزة دون قيمتها الاعتبارية.

للأسف الشديد أكتب بمرارة عن حقيقة استقلال بلدي واعتقد أني ضمن كثيرين نطمح إلى إعادة اعتبار للمقاومة وللشهداء ووضع الزعامات المزيفة في موقعها الحقيقي لكن توجد هنا لكن قوية ومؤثرة لدينا نخبة تونسية تقرأ جريدة لمونود وتحدد مواقفها من شعبها قبل أن تشرب قهوة الصباح لذلك فإن معركة الاستقلال الحقيقة ستكون الآن في الداخل ضد نخبة متفرنسة ومغتربة عن قضايا شعبها وهمومه الحيوية.

متى تنطلق هذه المعركة؟ هي حتى الآن في باب التمني ولم تفلح الثورة في فرضها لذلك مازلنا نلعن التبغ التونسي وندخنه ونختنق!
1
التعليقات (1)
عماد
الخميس، 23-03-2017 08:08 م
" وتجري هذه الأيام معركة كسر عظم في إصلاح التعليم لفرض الفرنسية بشكل أوسع" يحدث هذا في الوقت الذي لا تكاد هذه اللغة أن تجد لها موطئ قدم أمام لغات العالم خاصة في البحث العلمي ! وراء من يلهثوا طراطيرنا ؟ اغلبهم لا يتقن لا عربيته ولا لغة مستعمره الجاثية على صدره ! "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ? أَفَلَا تَذَكَّرُونَ