كتاب عربي 21

الفسطينيّ ولعنة "الوثيقة"

وائل أبو هلال
1300x600
1300x600
"هذا الفلسطيني" المُعذّب في الأرض، في البحار، في قوارب الموت، في المطارات، في الطائرات، على الحدود، في القطارات، في السيارات، مشيا على الأقدام على الحواجز، على المعابر – كل المعابر – أيّا كانت جنسيّتها وهويتها.

"هذا الفلسطينيّ" الموقوف، والمشبوه في دوائر المخابرات العربيّة والصهيونيّة والعالميّة، بل وحتى الفلسطينيّة!! متّهم دوما حتى تثبت براءته، بل حتى تُصاغ تهمتُه! 

"هذا الفلسطينيّ" – كل "الفلسطينيّ" – يولَد وعليه "قَيْد"؛ فلا تصدر له شهادة الميلاد، ولا يضاف لوثائق عائلته إلاّ بعد "رفع القيد" عنه "بتنسيق" مع الجهات المعنيّة! لا يراجِع في دوائر الجوازات كبقيّة خَلْق الله من البشر "العاديين"، وإنّما عند "مكاتب الأمن"! لا يُصرَف له "جواز عادي" لأنّه بلا جنسيّة محدّدة ومُعرّفة، وإنّما "وثيقة سفر" لا تسمح له بالسفر للبلد الذي يصدرها إلاّ بعد ألف معاملة ومعاملة!

تلاحقه لعنة "الوثيقة" أينما ذهب! حتى لو غيّر جلده، أو سمّي بغير اسمه، أو رُسِم بغير رسمه!! أو حصل على جواز وجنسيّة أخرى، فلم تعد "الوثيقة" شيئا يحمله، بل أصبحت مكوّناً جينيّا كما فلسطينيّته!!

يولد مهاجرا، ويعيش مهاجرا، ويموت مهاجرا! فالجدّ هُجّر، والأب، ثم الابن، وهاهو الحفيد يطوف الأرض يحمل إرث جدّه! "وثيقة" يحملها معه في كل "هجراته" على مرّ أجياله! 

"ناجي".. مثال من ملايين الأمثلة "لهذا الفلسطيني"!

سمّى نفسه"ناجي"  ظنّاً منه أنه سينجو بتغيير اسمه من كلّ العذابات الممزوجة مع "هذا الفلسطيني"؛ وقرّر زيارة شقيقة روحه - "هذه الفلسطينية" - ظنّاً منه أنه يستطيع أن يقرر! فحمل ما تيسّر من متاع الدنيا لشقيقته كبقية خلق الله! 

رافق "المِسْعد" ظناً منه أنه سيسعد يوما ما!!

ذوّب "الوثيقة" الخضراء في أسيد "الجواز" الأحمر! لن ترافقه لعنة "الوثيقة" بعد اليوم! استخدم  الهندسة الوراثية؛ فغيّر جيناته، فاستطال جسم "هذا الفلسطيني" الأزعر فبدا وكأنه إنجليزي أشقر! لا يمكن أن يُعرَف أصله حتى بالمجهر!

لكن كل ذلك لم يغن من "حق"  القيود شيئا!!

"فالمتاع" الذي حمله "زائل" ...

"والمِسْعد" الذي رافقه "تعِس"...

وأصالة الوثيقة الخضراء ذوّبت أسيد "الجواز" الأحمر! 

والهندسة الوراثية وقفت عاجزة أمام الجينات الفلسطينية ...

واكتشفت الكمبيوترات العربية الذكية "القيد" الذي حاول "ناجي" أن يتهرّب منه!! وتأكّد "حارس العروبة" أن "ناجي" هذا اسمٌ حركي لديناصور فلسطيني! 

صرخ الحارس الأمين لأمن العرب والمسلمين: قف! فاسمك في قوائمنا "مُدْرَج"! ومن مطارنا لن تخرج! وعلى أرضنا العربية لن تَدْرُج!!

شهر "الفلسطينيّ" جوازه الأحمر، وصرخ بلسانٍ معوّج متعجرف: أنا إنجليزي! أدخل أيّ بلد عربي! ولا يستطيع أحد أن يوقفني، و... و... 

اسمع! همس الحارس بإذنه؛ اصمت فأنا أعرفك أيها "الفلسطينيّ" من رائحة "وثيقتك"!  

استسلمَ "الفلسطينيُّ" للقضاء "المدرج" في قوائم القدر!

و"الفلسطينية" المتلفّعة بشوق ثلاثين سنة، تلهث بنظراتها من خلف الزجاج لتقتنص رشفة من عينيه، تحاول أن تخترقه بعينيها، بيديها! فقط  لتصافحه، لتحسّه، لتشم نفسه، لترى صوته ...

لكن عينيه اخترقت الزجاج اللعين .. فشعرت عيناه أنّ عينيها ستدمع قهرا... فهزّ ذلك الشعور كيانه من الداخل، خشية قهر الرجال أمام الأنذال ... 

صرخت عيناه بعينيها: اصمدي! ضمّدي دمعاتك بجفنيك! أخفيها بحدقيك! إيّاك أن تضعفي أمام هؤلاء الزبانية الحثالة، اصمدي وأريهم منّا قوة ...

أنا "الفلسطيني" وأنتِ "الفلسطينية"... تعوّدنا أنّ النظرة الواحدة تكفينا، ملايين غيرنا (منّا) لم يحظوا حتى بها! وملايين غيرنا (من الزبانية) يستكثرونها علينا، وودّوا لو يسلبون منّا العين التي ترى ..

بقيت ربع ساعة من مهلة الحارس الأمين! والباب الزجاجي ما زال موصدا، وبارود نظرات العيون يحاول تفجير هذا الزجاج "بعملية استشهادية"...

مروءة  "المِسْعد" تحرّكه ليدفع الباب بمكر "إنساني"!! في مواجهة القهر العربي!!

بينما الزبانية يدافعون "تسانومي" الإنسانية في صدورهم أمام هذا المشهد الفلسطيني الكربلائي ليوصدوا الباب على عجل!

انشق الباب على قدر حجم الكفّ؛ فسَرقَت هي كفَّ هواء لامسه، وسرق هو  كفّا آخر من هواها، استطاعا بكفَّيِّ الهواء أن يتصافحا في أثير الحرمان العربي، فشمّت يدُها يدَه أخيرا، واختنقت عبراتها في حلقها كرامة لرجولة عينيه وعزِّة عينيها!

شقيقان هما.. فلسطينيان هما... أخت وأخ هما.. جمعتهما لعنة "الوثيقة" في مطار البلد العربي الذي أصدر الوثيقة!

قال لها: أتيتك بشيء من"متاع"!

صرخت فيه عاتبة: "أنا عايزاك انتَ مش المتاع"!

انصهر الزجاج من حرارة اللحظة! لكن قلوب الزبانية ثبتت على "المبدأ"! وما غيّرت فيهم نار القهر شيئاً، لأنهم أصلاء، لأنهم عرب!

نعم الزبانية كانوا عرباً.

والقهر عربيّ!

و"القيد" عربيّ!

والمطار عربيّ.

والمِسعد عربيّ.

والزمن عربيّ.

والأرض عربيّة.

لكنه هو وهي: فلسطيني وفلسطينية ... "مُدْرجان"!!

آخر الكلام:
تتنوّع "الوثائق"، وتتعدّد المطارات! لكنّ "هذا الفلسطينيّ" كان وظلّ وسيبقى حاملا راية الحريّة مهما كانت "القيود"!

________________________________ 
(1) لدى وصول "ناجي" - البريطاني الجنسية فلسطيني الأصل – ورفيقه العربي أحد المطارات العربية (القاهرة)، لزيارة شقيقته المتزوجة من 30 سنة من مصريّ؛ أوقفته السلطات الأمنية في المطار بحجة أنه "مدرج" أمنيا، لا لسبب إلا أنّه فلسطيني الأصل، ولم تسمح له بالدخول، ولا حتى مصافحة شقيقته التي لم يكن يفصل بينهما إلا الزجاج، بينما سمحت لرفيقه العربي، أما "ناجي" فأعيد من حيث أتى، فما كان من رفيقه إلا أن رفض الدخول وعاد معه على نفس الطائرة تضامنا مع "ناجي" واستنكارا للموقف!
التعليقات (1)
ياسر
الإثنين، 20-03-2017 09:49 م
رواية رائعة لما لم تجمعها واخواتها تصدر رواية اسمها فلسطيننا قلم سيال وكتابة شفرتها حادة لكن ناعمة وقمة المتعة الرمزية واللغة العربية الرصينة. حتى بعض الكلمات العامية دجنتها وادخلتها في مكان لا يعكس شقاوته الا العامية. فعلا ممتعة لكنها حارقة ومحزنة حركت مواجعي وشوقي الى اهلي وارضي. يا ليتنا مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا