كتاب عربي 21

الزوابع النقابية في تونس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
انفجرت في الأسبوع الأخير من شهر فبراير زوبعة سياسية بين النقابة والحكومة على خلفية إقالة وزير الوظيفة العمومية والحوكمة وهو نقابي محترف جيء به للوزارة في حكومة يوسف الشاهد التي خلفت حكومة الحبيب الصيد. وكان توزيره قد تم تحت يافطة تهدئة النقابة بإشراكها ضمن حكومة وحدة وطنية بعد ابتداع ما سمى بوثيقة قرطاج البديلة تقريبا لنتائج انتخابات 2014. لقد ترسخت لدى الكثيرين وفي مقدمتهم الرئيس الحالي قناعة بأنه لا يمكن الحكم بدون تحييد النقابة بعدما أفرطت في الاحتجاج. لكن القبول بحكومة وحدة وطنية ثم الاحتجاج عليها في الشارع أو ابتزازها من الداخل لعبة لا يقبلها تلميذ بورقيبة لذلك سمعنا صفعة مدوية على وجه اليسار النقابي حولت عبيد البريكي إلى غبار سياسي ستذروه الرياح.

تنازع اختصاص 

منشأ الزوبعة كان محاولة السيطرة على إحدى أدوات التحكم في الإدارة العمومية بلغة الإدارة حصل تنازع في الاختصاص بين رئيس الحكومة وبين وزير الوظيفة العمومية وهو نفس التنازع الذي حدث بين حمادي الجبالي ومحمد عبو في أول حكومة منتخبة بعد الثورة من يسيطر على التفقدية العامة الإدارية والمالية وهي إدارة الرقابة على الكادر الوظيفي عامة ويدها تطول كل الوزارات والمؤسسات شبه العمومية لذلك فهي على حساسية عالية ومن يديرها فعلا يمسك بخناق الإدارة التونسية. وقد شعر الوزير المقال بأنه لا يمكن أن يفلح في وزارة الوظيفة العمومية دون وضع يديه على أدوات الرقابة الفوقية وما كان لرئيس الحكومة أن يفرط في سيف ديمقليدس. الذي أمسكه أسلافه بيد من حديد منذ نشأة الإدارة التونسية.

اصطدم الوزير بمقاومة شرسة وربما شعر رئيس الحكومة بالخطر وله ذلك فهو رجل غض ورقيق الحاشية أمام نقابي قديم عرك التفاوض وأتقنه. رغم ذلك أخطأ خطأه الوحيد عندما لوح بالاستقالة ويبدو أنه نسي أن غريمه ليس حمادي الجبالي النهضوي الطيب بل أحد تلاميذ بورقيبة فبدأ في التلويح بالاستقالة لذلك قبل أن ينفذ تهديده تمت إقالته في عملية مفاجئة أعادت إلى الأذهان أسلوب عمل بورقيبية الذي لا يقبل أن يستقيل وزراؤه بل يقالون عند كل حركة رفض يبدونه على سياسته.

لقد سار الرئيس الحالي على خطى زعيمه رغم أن الإقالة تتم الآن شكلا بأمر رئيس الحكومة لا رئيس الدولة لكن الجميع يعرف أن رئيس الحكومة هو صنيعة رئيسه وليس له قرار فعلي على الحكومة.

النقابة وقيادة الشارع

أحدثت الإقالة رغم أنها جاءت ضمن تحوير وزاري جزئي أزمة سياسية بين الحكومة والنقابة (الاتحاد العام التونسي للشغل) فعقدت الهيئة التنفيذية اجتماعا طارئا وندوة صحفية تصدرها سامي الطاهري عضو المكتب التنفيذي وهو نقابي يساري من تيار الوطد (حزب الوطنيين الديمقراطيين / إحدى مكونات الجبهة الشعبية اليسارية) فصوّر الأمر على أن الإقالة خطوة على طريق خصخصة المؤسسات العمومية مثل شركة الكهرباء والغاز وشركة المياه (لم يرد هذا الأمر في وثيقة قرطاج ولم يسبق للنقابة أن تحدثت عنه أو اتخذته برنامجا نضاليا منذ الثورة) ولوح النقابي بالتصعيد ودعا أنصار النقابة إلى النفير العام فحبست تونس أنفاسها أمام احتمال أزمة احتجاج لها أول ولا أحد يعرف نتائجها ومساراتها. لكن لقاء الأمين العام للنقابة (نور الدين الطبوبي) مع رئيس الحكومة بعد 24 ساعة من الندوة التصعيدية للطاهري تمخض عن خطاب تهدئة وقبول بالتحوير الوزاري ومواصلة التفاوض حول المسائل الحيوية تحت سقف وثيقة / اتفاق قرطاج الذي لم يسقط. 

وقد اتخذ رئيس الحكومة خطوة إلى الوراء فقبل اعتذار السيد الغرياني الذي سبق أن عينه على رأس الوزارة خلفا للبريكي ثم قام بإعادة مهام وزارة الوظيفية العمومية إلى صلب رئاسة الحكومة وقد قرأ الأمر كهزيمة أمام النقابة بينما قرأ آخرون الأمر كعودة نهائية عن إصلاح الإدارة وتطويرها.

تمنح النقابة التونسية نفسها لقب قائد الاحتجاج الاجتماعي. وفي كل تحرك يستعاد لقب (الاتحاد خيمة التونسيين الأخيرة) وهو وصف تروّجه النقابة وتعيش به. لكن سيرتها القيادية ليست محل إجماع شعبي. يتذكر التونسيون الكثير من ردهات عمل النقابة منذ السبعينات. من الاحتجاج الكبير سنة 1978 إلى دور الاتحاد في اعتصام الرحيل ثم في الحوار الوطني الذي أفضى إلى إقالة حكومة منتخبة سنة 2011 وتعويضها بحكومة وفاق سياسي قادها مهدي جمعة في الواجهة وحزب النداء في الخلفية السياسة وقام الاتحاد بتهدئة الشارع إلى حين الوصول إلى استعادة منظومة بن علي للحكم سنة .2014 فخسرت الثورة مسارها وانحرفت إلى عملية انتقال ديمقراطي لا يملك فيه الثوار إمكانيات حقيقية لمواجهة المنظومة.

بعد طول مراس وبعيدا عن الأوسمة النضالية التي تمنحها النقابة لنفسها أدرك الكثيرون أن النقابة تلعب لعبة المنظومة القديمة وتقدم لها خدماتها كما كانت تفعل قبل الثورة فالاحتجاج في حقيقته واجهة للاستهلاك أما التنسيق التحتي من النظام فيجري بمبررات كثيرة منها الحرب على الإرهاب. 

النقابة التونسية في عمق عملها ليست نقابة بل حزب سياسي وقياداتها تتصرف على هذا الأساس يوجد في مفاصل النقابة نقابيون لكن حجم السياسي في النقابي هو الأصل. وذلك منذ التأسيس وكلما تعرض قلم بالنقد لهذه المسألة صفعته النقابة بوجه حشاد الذي شارك بالنقابة في معركة التحرير الوطني.

لقد قادت النقابة في أقل من سنتين من حكم الترويكا أكبر عدد من الإضرابات القطاعية والعامة في تاريخها ووضعت الحكومة بين خيارين انهيار المسارات السياسية والفوضى أو الانكسار والاستقالة ونجحت النقابة الحزب. ضد الترويكا لكنها لم تنجح بواسطة وزيرها في الاستيلاء من الداخل على التفقدية العامة. فالحاكم هذه المرة لا يشعر بالخجل أمام نقابي سليط اللسان.

تحرير النقابة من السياسة

الحديث عن النقابة/الحزب هو إعادة تسمية لليسار النقابي المهيمن منذ السبعينيات على النقابة. ويتخذها وسيلته للمشاركة في الحكم من موقع الاحتجاج العلني والابتزاز تحت الطاولة. وبواسطتها احتل اليسار وخاصة تيار الوطد مفاصل كثيرة في الإدارة عبر معركة طويلة خيضت على مربعات صغرى وحالة بحالة. وقد كانت فترة بن علي فترة تقاسم مواقع بين الشعب المهنية التجمعية (خلايا التجمع في الإدارة) وبين النقابات يتوزعان فيها المغانم والمواقع ويسندان النظام في معركته ضد عدوهما المشترك الإسلام السياسي.

في هذه المرحلة وليصل الباجي إلى نهاية مدته بسلام وليستخلف من بعده خلف يرضاه يجب أن تحجم النقابة فالبلد لا يحتمل الدلال اليساري كما في زمن الترويكا. وإقالة البريكي (الوطد رغم التخفي ) صفعة مدوية على وجه سياسة الابتزاز اليساري للحكومات والزوبعة المفتعلة في الندوة الصحفية ليست إلا تغطية للشعور بالذلة أمام قرار الإقالة.

يعرف الشاهد ومن ورائه رئيسه من يحرك من داخل النقابة لذلك استهدفوا رأسا محددة فكسروها وهي رأس البريكي ولن تقوم له قائمة بعد هذه الكسرة وسيواصلون وربما يسندهم شق من داخل النقابة له مصلحة في إعادة اليسار النقابي إلى حجمه الطبيعي بعد تغوّل بلا قاعدة.

هذه منطقة لزوابع حقيقية لكن داخل النقابة لا خارجها. نعتقد أن تخرج منها النقابة نقابة وينتهي دورها كحزب سياسي فتحرير النقابة من السياسي خطوة على طريق الثورة.
0
التعليقات (0)