مقالات مختارة

الركود الصاخب: النظام التلفزيوني الأمني اللبناني المشترك

وسام سعادة
1300x600
1300x600
في وقت يتخبّط فيه اللبنانيّون بالمشكلة المزمنة المستعصية إيّاها، منذ انتهاء الحرب، وهي مشكلة انشطارهم على ترجمة ما يردّدون، بكلمات أضحت متشابهة فيما بينهم، حول لزوم قانون انتخابي جديد يراعي صحّة التمثيل ويكون عصريا، تنتفخ على نحو لافت في الآونة الأخيرة السمة «التلفزيونية» في نظام الأشياء في بلادهم. الحجة المضمرة لهذه السمة التلفزيونية أنّ البلد لم يعد كفيلا، من تلقاء نفسه بإنتاج «أحداث»، ولا بدّ من مساعدته على توليدها، بحيث يتسلّى الواحد بضجره، وتدور الدائرة في «مجتمع المشهد»، بين فضيحة ينكشف نصفها ويلهي عن انكشاف نصفها الآخر نبأ فضيحة جديدة، وبين متلازمة لا آخر لها من الفضح والوعظ.
منذ دخول ثنائية الانشطار بين 8 و14 آذار/مارس مرحلة ركودها التي «هي هي» مرحلة انشطار 14 آذار/مارس نفسها، وتعليق مسلسل الاغتيالات السياسية في الفترة نفسها تقريبا، وترنّح انتفاضات الربيع العربي بشكل عام، وغياب الأفق أمام الحرب السورية، يرزح لبنان في فراغ أكبر من الفراغ الرئاسي الذي دام سنتين ونصف، وأكبر من مجموع الأزمات السياسية، وفي طليعتها مشكلة أنّه لا حلّ لمشكلة سلاح «حزب الله». يعيش البلد حالة نضوب للحدث السياسي فيه، إن لم يكن هذا الحدث هو تتمة لحدث أمني. يعيش حالة من الضجر السياسي، تجد في بعد منها تفسيرا لها، في أنّ أنماطا خطابية سياسية ظلّت تردّد على مسمع الناس كما هي لسنوات طويلة، وكانت تثير حماسة فيهم ويلمع لها بريق العيون، وما عادت هي الحال اليوم، ولو أنّها لا تزال أنماط خطابية يتداولها الناس، و«يعيشونها»، وليس لهم من إحالة، في السياسة، لغيرها. في هذا الوقت، تنهض بعض القنوات التلفزيونية، وبعض المذيعين والمنشطين عليها، وبعض الفنانين «الاستعراضيين» ـ أو خلافه، في محاولة، منهم، لإعادة خلق حياة، إعادة توليد حدث، وتعكير هذا الركود، بصخب من لون الركود نفسه. والناس في كل مرة، متفاعلة وغير راضية، في الوقت نفسه، تؤدي الدور المطلوب منها بالتفاعل مع اقتراحات الإثارة التي تطرح عليها، مع الفضائح التي تقدّم لها على سبيل السلوى وتحريك القيل والقال، ثم تؤدي دورا «جاحدا» بهذه النعمة التلفزيونية، وتسلس قيادها للخطاب الوعظي «الأخلاقوي» المبتذل، الذي تعود قناة تلفزيونية لتقتبسه وتحرّكه ضدّ قناة تلفزيونية أخرى.
بالتوازي، تطوّر لدى الناس، المشاهدين، وعيا سحريا بعض الشيء، بأنّهم يعلون «الرايتينغ» في قناة أو برنامج عليها أو يخفضونه، وأنّ «التلصّص» على ما لا يجدونه «مناسبا» هو سيف مسلّط عليهم، وأنّ «اعرف خصمك» يستفيد منها الخصم في اللعبة التلفزيونية. تتطوّر في المجتمع اللبناني تصوّرات طريفة حول «الرايتينغ»، وطرائق مضاعفته أو تبديده، احتسابه أو تطويقه. كل هذا في وقت تطبع فيه حياتهم السياسية بـ«اللاحدث» إلى أبعد حد. نعم، انتخب رئيس للجمهورية، تشكّلت حكومة. لكن بعد ذلك: لا قانون انتخاب حتى الآن، تمديد ثان للمجلس النيابي ينتهي بعد شهرين، ولا نسمة جو انتخابي في البلد. وطائفة من المشكلات، كبيرها وصغيرها، لم تعالج منها مشكلة، من سلاح «حزب الله» وتدخله في سوريا إلى مشكلة النفايات، ربّما إلا مقتلة طيور النورس بتهمة تهديده سلامة الملاحة الجوية قرب مطار بيروت، وهذه كانت صورة نموذجية للأحدث. تقارير تلفزيونية تتكرر حول تزايد طيور النورس قرب المطار، بسبب مصب للمياه المبتذلة، وأنّ شركات الطيران تتجه لمقاطعة مطار بيروت، وأنّ الكارثة محدّقة. ثم تقارير خيال علمي حول الطرق الأنجح لمكافحة النورس، وإقناعه بإخلاء الساحة للبشريين. ثم قتل عشرة آلاف من هذا الطير. ثم نقاش «حيوي» يستهجن فيه طرف «إنسانية» الناشطين البيئيين الذين يبكون النورس ولا يلتفتون لقضايا الإنسان اللبناني، ويصرّ فيه طرف على أن تكون النقطة الجغرافية الواحدة مطارا دوليا ومكب نفايات ومصرف للمياه المبتذلة، في حين يصرّ فيه الطرف الآخر على أن تكون هذه النقطة مطارا دوليا ومحمية طبيعية.
قبل مقتلة النورس، كان لبنان هو البلد الوحيد الذي استقلّ بالضحايا الثلاث الذين يحملون جنسيته من بين جميع ضحايا مقهى رينا، وصنع لهم حدثا تلفزيونيا متواصلا لأيام على مدار الساعة، ليس له مثيل لدى كل البلدان التي سقط لها ضحايا في مقهى رينا. وبما أنّ الضحايا من المسيحيين، والمجزرة حدثت في تركيا، لم تستطع بعض القنوات التلفزيونية إدراك البداهة الأولى، وهي أنّ المجزرة اعتداء على الأمن التركي، وعلى مواطنين أتراك وأجانب في اسطنبول، وصار «الحدث التلفزيوني» عجينة من الإسلاموفوبيا والتركوفوبيا، ومن المارتيرولوجيا القومية اللبنانية.
أما «الأحداث التلفزيونية المفتعلة» بعد مقتلة النورس، فصارت هذه المقتلة بالمقارنة بما بعدها، زمنا رومانسيا جديدا. فهنا قناة ترمي برنامجا في قناة أخرى بأنّه تسهيل للبغاء، والقناة المستهدفة لا تردّ بأنّه برنامج للتسلية و«الإنترتيمنت»، بل إنّه دليل الشعوب العربية المكبوتة إلى التحرّر والاستنارة. ثم أخذت القنوات تراهن على «حصان» في عائلة يقتل فرد منها فردا آخر، وصولا إلى انقسام قناتين حول أمر شخص وزوجته وصاحب زوجته! فهذه قناة تعرض وجهة نظر هذا، وتلك قناة تعرض أفلاما جنسية خبأها ذاك إلى يوم يحتاجها.. لتنوير الرأي العام!
وبما أنّ كل واحدة من هذه القنوات باتت تفتش أو تلقى حماية أمنية لها في مواجهة القناة الأخرى، بالإضافة إلى علاقاتها السياسية والمالية، لجاز تسمية هذه السمة من نظام الأشياء في لبنان اليوم، بـ«النظام التلفزيوني الأمني المشترك». وهو ليس فقط بمشترك بين القنوات، التلفزيونية والأمنية، لكنه مشترك أيضا مع جمهور المشاهدين، ومع الهاجس الجديد الذي أخذ يأكل من عقول المشاهدين، هاجس «حرمان» خصمهم من الرايتينغ، وهجائه على مواقع التواصل الاجتماعي في الوقت نفسه.
هو نظام يفترض رغم كل شيء إعطاءه حقّه: إنّه تدوير لمناخ السأم العام. هدفه تسلية الناس بضجرها. هو يكشف أزمة قيمية حقيقية في المجتمع اللبناني، أزمة قيم تزيدها احتقانا هذه الازدواجية بين الرغبة في الفضح المبتذل، بما في ذلك فضح الذات بشكل مبتذل، وبين الرغبة في الوعظ، بما في ذلك تلاوة فعل الندامة بشكل مبتذل. لكن ما يكسب أزمة القيم العميقة هذه بعدها المنتفخ والهزلي إلى هذا الحد، لا يفسر بهمّة القنوات التلفزيونية، وتزاحمها، وبهاجس «الرايتينغ». هو يرتبط بمناخ تراكم الاستعصاءات والفراغات. ما كاد البلد يفرغ من أزمة الشغور الرئاسي حتى عاد وتذكر أنه غير قادر على التوصل إلى قانون انتخابي جديد بشكل يرضي الجميع، وغير قادر على فرض هذا القانون حتى هذه اللحظة، بشكل يلزم الجميع. وما كاد اللبنانيون، مثل كل شعوب الأرض، يفرغون من متابعة الانتخابات الأمريكية، وينقسمون حول ما ينتظرونه من دونالد ترامب، حتى عادوا وتذكروا، أنّ بلدهم، ما زال بحكم «المنسي». يصدم هذا الكثيرين منهم، الذين لا يقبلون الغياب عن «العالمية». يصدم القنوات التلفزيونية التي تشتري برامج تسلية أو هواة أجنبية وتعرّبها وتسوّق لنفسها أنّها ارتقت في الإبداع والوطنية. كما يصدم الفنانات الاستعراضيات المقتنعات هن أيضا ببلوغ ركب «العالمية».
ركود صاخب مثل هذا، يصعب تجاوزه إلى ما هو أفضل منه، من دون مطبات حقيقية.




نقلا عن القدس العربي
0
التعليقات (0)