قضايا وآراء

المثقف إذ يقسو على أمته (ابن خلدون نموذجا)

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
رحم الله ابن خلدون (1332م- 1406م)..فقد خابت حظوظه فى دنيا السياسة والسلطة وهى الخيبة  التى عبر عنها بلسان القسوة على أمته أو إن شئت واقع وفكر أمته الذى عاشه وانغمس فيه علما وعملا، وقد أنبأنا التاريخ عن خيبات كثيرة لمثقفين راحوا وغدوا على باب السلطان فما ابتلت جوانحهم شوقا إلى السلطة والنفوذ ولا جفت أقلامهم في المدح والذم ولا خفت أقدامهم فى سعيهم الجموح (وآه من جموح المثقفين)، بل زاد حنقهم وضيقهم من الدنيا والناس وظهر ذلك فى كتاباتهم وآرائهم التي خلفوها وراءهم (التوحيدى مثلا..). 

على أنه ما كان يصح لابن خلدون فى مقدمته -التي ستأسر الفكر السياسي العربي سبعة قرون- أن يكون بكل هذه القسوة ولا بكل هذا التعميم، خصوصا أن الدين والعقل يرفضان هذا الوصف المعمم الذى جاوز الحقيقة وجاء ناضحا برؤية شخصيه مريرة لابن خلدون وكان يتوجب عليه ألا يقوم بتعميمها فيصف العرب قاطبة بالتوحش والغلظة وأنواع الشرورالأخرى التى وزعها بسخاء غريب.. نستطيع أن نفهم وجود أخطاء بطبائع البشر أيا ما كانوا وأينما كانوا.. لكن من المستحيل استيعاب فكرة تعميم ظاهرة التوحش والغلظة ووقفها على شعوب الأمة العربية. وهو الأمر الذى يجب ان يكون موضع نقد علمي وموضوعي من المفكرين العرب دون إنقاص من القيمة العلمية والفكرية لابن خلدون. أما أن تحتفي به أجيال الأمة جيلا بعد جيل دون إشارة لتلك الأخطاء المبالغ فيها وغيرها مما احتوته المقدمة دون قراءات نقدية لأفكارها التي تأثرت بالعوامل الاجتماعية والسياسية التي عاشها الرجل فهو مما يحتاج إلى مراجعه ونقاش.. وأود أن أشير هنا إلى السلوك العربي إذا قيس بسلوك شعوب أخرى ما كان أبدا ليوصف بالتوحش والغلظة وإلا فبماذا نصف الرومان الذين كانوا يتسلون بمصارعة العبيد حتى الموت أو يلقون بإنسان لمصارعة أسد أو نمر بينما يجلس المتفرجون على المدرجات يهتفون مبتهجين بالمشهد الدموي الذي يشاهدونه، فهل هناك وحشية أكثر من ذلك! وهل يذكر التاريخ مجزرة واحده ارتكبها العرب في مدينة واحدة كما حدث في هيروشيما مثلا؟ بل هل سجل العرب ضمن حروبهم واحد على ألف من الأرقام التي سجلتها أوروبا فى القرون الوسطى (قبل معاهدة ويستفاليا وبعدها) أو فى الحربين الأولى والثانية في أعداد القتلى؟! إن كان العرب وحوشا فماذا نسمي ما حدث للهنود الحمر فى أمريكا على يد الأوروبيين الطهوريين.. وماذا عن محاكم التفتيش؟

الدكتور محمد عمارة (كبير الأمناء على تراث الأمة) فسر أقوال ابن خلدون بأنها كانت عن الأعراب الموغلين فى البداوة والتوحش قبل أن يتدينوا بالإسلام فتتهذب طباعهم، وهذا تفسير مريح نفسيا لكنه ليس تفسيرا مانعا، ولا يلغي غيره. 

يعذرون هذه القسوة باعتبارها نتيجة أزمة نفسيه عاشها بن خلدون تزامنت مع فترة أليمه في تاريخ الأمة فشاهد حاله احتضار مؤسفة لخير أمه أخرجت للناس، فكان مثقلا بالمرارة والنقمة عندما وجدهم غارقين فى نزاعاتهم الداخلية فرأى بعينيه سقوط دوله المغرب وانهيار دوله المشرق تحت أقدام الأسبان والتتار وكان شاهدا مباشرا على هذا الانهيار ناهيك عن أسره فى أيدى تيمورلنك إمبراطور الخراب (1336م- 1405م). 

العديد من المستشرقين ومراكز البحوث في الغرب سارعت الى مقدمة ابن خلدون فتوصيف الشعوب العربية بالمتوحشة غير الحضارية لا يعرفون إلا "مضارب الخيام والسرارى والخصيان وحروب الثأر والنزاع على ناقه وبئر ماء" وغيرها من التوصيفات الفاسدة التي يرددها الغرب استنادا إلى مقدمة ابن خلدون وشهادته على عصره فكرا وواقعا، حتى إن أحد مراكز الأبحاث بالوطن العربي الممولة من الخارج تحمل اسم ابن خلدون كنوعٍ من التذكير أو تثبيت فكرة التوحش والغلظة التي أُلصقت بالعرب من قبل ابن خلدون نفسه، وقد يكون الدافع بالفعل أن الرجل علامة من العلامات البارزة فى علم الاجتماع وفلسفة التاريخ وهو ما لا ينكره أحد. 

ونحن إذ نقول ذلك لانحصر بن خلدون فى دائرة القسوة على العرب وكيل التهم لهم (كما فعل هو معنا) ونغفل مكانته الكبرى في تاريخ الفكر الإنساني، فالحق أن الرجل هو المنشئ الأول لعلم الاجتماع الإنساني، عالج فيه ما يطلق عليه الآن "المظاهر الاجتماعية" أو ما اسماه هو "أحوال الاجتماع الإنساني" وكان بحق سابقا لعصره بقرون في رصده للبشر وظواهر العمران التي تصاحب حياة هؤلاء البشر، تأثر به عدد كبير من المفكرين الغربيين الذين جاءوا بعده مثل: العالم الإيطالي جامبا فيكو (1667م- 1744م) والعالم الالمانى أفرايم ليسنج (1729م- 1781م) كما تأثر به جان جاك روسو(1712- 1778م) والإنجليزي مالتس (1766م- 1842م) في فكره التزايد السكاني وهو أول من تحدث عن التحولات الديموغرافيه والدياليكتيك (الصراع) قبل جورج هيغل (1770-1831م) وكارل ماركس (1818م- 1883م).

على الجانب الشخصي كان ابن خلدون كمعظم المثقفين الكبار نرجسيا شديد الاعتزاز بنفسه وشديد الثقة بنبوغه، قوي الشخصية جامح الطموح، كان انتهازيا أحيانا ووفيا أحيانا، كما أنه كان سياسيا بالغريزة والتكوين، وصفه بعض الباحثين بأنه كان "عالما سياسيا بكل جدارة وسياسيا عالما بكل اقتدار بما تحويه السياسة من مراوغة وتملق وما يطلبه العلم من نزاهة وأخلاق". كان يسعى إلى المناصب ويحبها ويفتعل المكائد ضد زملائه عند الملوك والسلاطين ويقال إنه كتب تقريرا إلى تيمورلنك حين غزا دمشق عن جغرافية المغرب!! كان مجاملا متواضعا حسن العشرة وهو خارج السلطة ولكن كان قاسيا مغرورا حين يتولى منصبا. 

على أني توقفت كثيرا عند قوله في مقدمته إن "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح: ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه، وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلبة بغير عصبية". فهل كان موقظ الشرق جمال الدين الأفغاني موقنا بهذه الحقيقة الخلدونية؟؟ فعمل على تأسيس (تنظيم) العروة الوثقى والتنظيم ما هو إلا (العصبية) التى كان يشير إليها ابن خلدون، ناهيك عن إيمان الأفغاني الكامل بأن الشرق لن ينهض أبدا فى غياب الإسلام : "العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة وولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة"، هذا ما قاله ابن خلدون. وهل نقترب أكثر ونقول إن رواد الإصلاح الذين استمروا على نهج الأفغاني من بعده (الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والأستاذ حسن البنا) اعتقدوا اعتقادا نهائيا بأنه لا إصلاح للأمة إلا بأمرين حاسمين: (الإسلام) و(التنظيم)، وهو ما ذكره بن خلدون بوضوح حين قال: "العرب بغير الإسلام لا يساوون قلامة ظفر" و"الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم". لكن من حقنا أن نسأل: وأين الناس العاديين فى هذه المعادلة الصلبة؟ نستطيع ان نوجد مخرجا من هذه الحلقة الضيقة إذا أعتبرنا الناس هم المستوى الأمثل لتحقق الاسلام فى الحقيقة الاجتماعية للناس. وليعد بنا المعاد هنا للمحك الأساسى فى كون الاسلام حقيقة اجتماعية قبل أن يكون سلطة سياسية، وهو ما فات الثورات العربية الأخيرة إدراكه فنظرت للسلطة السياسية بعين واسعة، ونظرت للمجتمع بعين واسعة أيضا بيد أنها كانت مغمضه على اتساعها.

لكن كل ذلك لا ينفي عن ابن خلدون ريادته في النظر للاجتماع السياسي الإنساني وأيضا لا ينفي عنه قسوته علينا.
التعليقات (0)