كتاب عربي 21

الزطلة أفيون قائد السبسي ودواؤه الوهمي لمأزقه في الحكم

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
ليكن واضحا من البداية ليس هناك شكا في ضرورة تغيير احد القوانين الزجرية البائسة لنظام بن علي "القانون عدد 52 لسنة 1992 الذي يتعلق بالمخدرات" والذي تسبب في استسهال الزج بالاف الشباب التونسيين (6600 حسب وزير العدل) في السجون بسبب استهلاك المخدرات حتى الاقل تأثيرا.  لكن مستوى الشعبوية والسطحية الصادرة من الرئيس قائد السبسي وانصاره في الاسبوعين الاخيرين وخاصة تصريحه حول مبادرة رئاسية لـ"طرح تعليق تطبيق القانون على جلسة قادمة لمجلس الامن القومي" يتناقض كليا مع صلاحياته هذا عدا عن تناقضه مع مبدأ دولة القانون والمؤسسات. كان علينا ان نستمع على سبيل المثال لمستشارين للرئيس وقياديين في البرلمان من انصاره وبعضهم محامين يطلقون تبريرات من نوع أن للامن مسائل اخرى يحتاج التركيز عليها عوض "الزطلة" (التسمية التونسية للقنب الهندي او الماريخوانا) وذكروا للتدليل على ذلك ضرورة تركيز الامن على "التجارة الموازية" عوض "الزطلة"، على اساس ان مسالك تجارة الزطلة تتبع التجارة الرسمية المقننة.

الحقيقة انه لم يعد للرئيس ما يقدمه امام تواصل المؤشرات السلبية في كل المجالات الا لعبة الالهاء واللعب على وتر شعبوي يمس عددا من العائلات التونسية. ولو ان حسابات الرئيس وحاشيته هذه المرة خاطئة بما أن عددا من استطلاعات الرأي الجدية غير المنشورة التي تمت في الاسبوعين الاخيرين تشير بشكل واضح الى ان اغلبية واضحة في الرأي العام غير راضية على التقنين المؤقت لاستهلاك الزطلة، في الوقت الذي يمكن فيه للرئيس او الحكومة تقديم مبادرة تشريعية سريعة لتنقيح القانون الحالي بما يمنح للقاضي مجالا للاجتهاد، في انتظار اصدار القانون الجديد للمخدرات الذي من الواضح أنه يحتاج نقاشا اوسع واعمق. 

وصادف ان نشر "المعهد الوطني للاحصاء" هذا الاسبوع اخر المؤشرات الاقتصادية وخاصة حصيلة نسب النمو والبطالة لسنة 2016. ومثلما نقلت افتتاحية احد الصحف: "أصدر يوم أمس المعهد الوطني للإحصاء نشريتين ينتظرهما الجميع بفارغ الصبر: النموّ الاقتصادي للثلاثي الرابع لسنة 2016 ومؤشرات التشغيل والبطالة لنفس الفترة .. والنتيجة أسوأ بكثير من المتوقع إذ لم ينم الناتج المحلي الإجمالي (PIB) على امتداد كامل سنة 2016 إلا بـ %1 فقط مقابل توقعات منذ أسابيع قليلة بـ%1.3.. وللتذكير فان قانون المالية للسنة الفارطة قد بني على فرضية نمو بـ %2.5 ثم تمت مراجعتها في مناسبات عدة إلى أن استقرت في النهاية على انجاز %40فقط من الفرضية الأولية." (جريدة "المغرب" 21 فيفري 2017). 

أمام ذلك ذكرنا أسوأ مستشاري السبسي على الاطلاق، المتعلقة به على سبيل الذكر لا الحصر قضايا فبركة، في سياق تبريره لتصريحات الرئيس بما يلي: "لا يجب ان ننسى ان اجدادنا كانوا يستهلكون الزطلة في شهر رمضان." وبعكس سيل الاكاذيب التي تعود على قولها، منها اخيرا نفيه وجود بطاقات جلب للجلاد السابق الحبيب عمار رغم نشر وثائق بطاقات الجلب في الشبكات الاجتماعية، فإنه توجد بعض الحقيقة في ذلك. اذ كان فعلا الشعب التونسي تحت الاستعمار الفرنسي يتعرض الى حملة منظمة من السلطات الاستعمارية لاغراقه في استهلاك الزطلة. بمعنى اخر في ان هذه الذكرات التاريخية تدفعنا على العكس الى نبذ استسهال استهلاك المواد المخدرة حتى الاقل تأثيرا نظرا للتجربة التاريخية السلبية للشعب التونسي في هذا السياق. 

وقد ذكرنا المؤرخ والصحفي عادل القادري هذا الاسبوع بنبذات من هذا التاريخ السلبي لاستهلاك "الزطلة" تحت وبتسهيل من الاحتلال الفرنسي. إذ اشار الى ما يلي: "شارك قادة الحركة الوطنية ،مثل الدكتور محمود الماطري، في الدعوات والحملات الصحفية من أجل مكافحة جدّية لترويح المخدرات وتعاطيها، متهمين سلطات الحماية الفرنسية وأعوانها بتخدير الشعب وتغييب وعيه وإضعاف إرادته. كما تطرّق محي الدين القليبي، في مقال له بجريدة "الإرادة" سنة 1937، إلى إحدى القضايا التي تورّط فيها أعوان من الشرطة في الاتجار بالمخدرات وإخفاء أمر مروّجيها مستغربا المآل الذي انتهت إليه القضية محمّلا الحكومة "مسؤولية إهمال الرقابة الذي نشأ عنه مثل هذا الإجرام، ومسؤولية عدم التطهير من بعد، عندما اتضحت معالم الجريمة" واستنكر عزم الحكومة آنذاك إغلاق ملف القضية بما فيها، مبرزا بدوره مخاطر انتشار المخدرات "وما نشأ عنه من فساد في الأخلاق وانحلال في الصحة وخبال في العقول...". واستفحل إدمان المخدرات في تونس خلال فترة الثلاثينات مع تفاقم الأزمة الاجتماعية، حتى في صفوف بعض المثقفين والفنانين (من جماعة "تحت السور")، ربما هروبا من الواقع الأليم. و رغم صدور أمر 23 أفريل 1953 لم يتم اتخاذ القرار النهائي لمنع زراعة التكروري واستهلاكه والاتجار به إلا في أكتوبر 1955 أي إثر تحقيق تونس استقلالها الداخلي". 

"التكروري" جد "الزطلة" ولا يمكن ان لا نقارن بين تساهل سلطة استعمارية مع استهلاكه وترويجه تتناقض مصلحتها مع اي استفاقة جدية للشعب التونسي والسلطة الحالية المورطة في حالة فشل مستديم وغياب لاي مقاربات وحلول جدية تهرب على اثره الى ترويج نجاحات زائفة مثل التقنين المؤقت لاستهلاك الحشيش. 

اقول تقنينا مؤقتا لأن تصريح السبسي ادى فعليا لانتشار اعتقاد واسع بين الشباب التونسيين بذلك الى درجة ان بعضهم اقدم على الاستهلاك بشكل علني في احد الساحات العمومية وسط العاصمة، وعندما القى عليهم الامن القبض قاوموا ذلك بالصراخ ان "السبسي سمح بذلك". وصابح انصار قرار السبسي يركزون على التقليل من اثار استهلاك الماريخوانا. 

رغم أن مضارها اقل من انواع اخرى من المخدرات "القوية" مثل الهيروين والكوكايين، فإن مضار  "الزطلة" امر واضح بدراسات علمية لمؤسسات بحثية كبيرة (امريكية وكندية وسويدية وبريطانية) ولا يمكن التقليل منها تحت تسمية المخدرات "الخفيفة". ونقل على سبيل الذكر لا الحصر مقال في جريدة "الغارديان" (وهي صحيفة غير محافظة) في شهر جانفي الماضي تلخيصا لاهم هذه الدراسات مع روابط لها لخص اهم الاضرار منها: على المدى القصير ان مستهلكي الماريخوانا هم اكثر عرضة بالضعف لحوادث السيارات من بقية الناس (دراسة لمستهلكين في انتاريو الكندية)، ان استهلاك الحشيش من الاسباب الاساسية اضافة الى الكحول والسجائر لحالات لادمان في غالبية الدول الغربية، على المدى الطويل اثبتت دراسة سويدية واخرى للمعهد الملكي البريطاني ان استهلاك الماريخوانا يسبب عبر السنين امراضا نفسية مستديمة مثل السكيزوفرينيا والبسيكوز. 

وهنا يجب طرح موضوع اخر يهم السياق التونسي تحديدا وهو علاقة استهلاك المخدرات عموما والزطلة تحديدا بالارهاب والامراض النفسية ايضا. ومن المعروف الان ان عناصر التنظيمات الارهابية مثل "داعش" يستهلكون انواعا من المخدرات عند القيام بعمليات انتحارية او "انغماسية" ومن الحالات المعروفة في تونس ثبوت استهلاك سيف الدين الرزقي الذي قام بعملية سوسة الارهابية لحبوب مخدرة قبل العملية. كذلك اثبتت الدراسة التي قام بها سنة 2014 المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية عند ادارتي له حول "السلفية الجهادية في تونس الواقع والافاق" (منشورة على الانترنت) في عينة خاصة توجد في احد المصحات النفسية عن رواج استهلاك المخدرات بين الفئات التي يتم استقطابها من قبل التنظيمات الارهابية، وعلاقة ذلك بالامراض النفسية مثل البسيكوز. هذا اضافة الى ان مسالك تهريب "الزطلة" خاصة عبر الحدود الجزائرية التونسية مترابطة بالضرورة بمسالك تهريب مختلف المواد الخطرة وعلى رأسها السلاح والاهم متقاطعة مع مسالك تسلل الارهابيين. 

التقنين المؤقت للمخدرات عبر تصريح طائش للرئيس وحملة التبريرات السطحية من قبل مناصريه هو بمثابة سكب الزيت على النار في موضوع فعلا يندرج تحت "الامن القومي" ولا يمكن فيه اللعب بالنار. وهو سلوك غير مسؤول يعكس الازمة السياسية للسلطة الحالية، التي لم يبق لها من مجال للايهام بتحقيق اي انجازات سوى المشاركة في ترويج المخدرات على امل تنويم التونسيين وخاصة شبابهم، مثلما تفعل اي سلطة استعمارية. 
التعليقات (0)