كتاب عربي 21

تحديث التبعية.. لا الاستقلال

محمد عمارة
1300x600
1300x600
إذا كانت الهجرة من الحاضر إلى الماضي هي جمود يؤدي إلى قيام "الفراغ الفكري" الذي يتمدد فيه التغريب، فإن التغريب، الذي يهاجر أصحابه من واقعنا الحضاري إلى واقع حضاري مخالف، إنما يفضي إلى "عمالة" هؤلاء المتغربين للاستعمار الذي جاء بهذا التغريب في ركاب الغزو بلاد الإسلام!

والذين يريدون لأمتنا أن تبدأ من حيث انتهى الغزاة، هم دعاة تبعية لهؤلاء الغزاة، لا علاقة لهم بحقيقة النهوض، الذي لا سبيل إليه إلا بالاستقلال.

عن هذه الحقيقة من حقائق سبل التقدم والنهوض تحدث موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني (1245 - 1314 هـ، 1838 - 1897م) فقال: "إنه لا ضرورة في إيجاد المنفعة إلى اجتماع الوسائط وسلوك المالك التي جمعها وسلكها بعض الدول الغربية بل لا ملجئ للشرقي في بدايته أن يقف موقف الغربي في نهايته، بل ليس أن يطلب ذلك، وفيما مضى أصدق شاهد على أن من طلبه فقد أوقر - (أعجز) - نفسه وأمته وقرا، وأعجزها وأعوزها".

لقد شيد العثمانيون عددا من المدارس على النمط الجديد، وبعثوا بطوائف من شبانهم إلى البلاد الغربية ليحملوا إليهم ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف والآداب، وكل ما يسمونه "تمدنا" وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني، فهل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدموا لأنفسهم من ذلك، وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة؟!

نعم، ربما وجد بينهم أفراد يتشدقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية - (القومية) - وما شاكلها، وسموا أنفسهم زعماء، الحرية!ومنهم آخرون قلبوا أوضاع المباني والمساكن وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية، وسائر الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية، وعدوها من مفاخرهم، فنفوا بذلك ثروة بلادهم إلى غير بلادهم، وأماتوا أرباب الصنائع من قومهم! وهذا جدع لأنف الأمة يشوه وجهها، ويحط من شأنها!

لقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها، وطلائع الجيوش الغالبين وأرباب الغارات، يمهدون لهم السبيل، ويفتحون لهم الأبواب، ويثبتون أقدامهم!

إن المقلدين لتمدن الأمم الأخرى ليسوا أرباب تلك العلوم التي ينقلونها، وإنما هم حملة ونقلة، لا يراعون فيها النسبة بينها وبين مشارب الأمة وطباعها، وهم ربما لا يقصدون إلا خيرا، إن كانوا مخلصين! لكنهم يوسعون بذلك الخروق حتى تعود أبوابا، لتداخل الأجانب فيهم تحت اسم "النصحاء"، وعنوان "المصلحين"، وطلاب الإصلاح، فيذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال وبئس المصير!

إن نتيجة هذا التقليد للتمدن الغربي عند هؤلاء الناشئة المقلدين ليست إلا توطيد المسالك والركون إلى قوة مقلديهم، فيبالغون في تطمين النفوس، وتسكين القلوب، حتى يزيلوا الوحشة التي قد يصون الناس بها حقوقهم، ويحفظون بها استقلالهم، ولهذا، متى طرق الأجانب أرضا لأية أمة، ترى هؤلاء المتعلمين المقلدين في أول من يقبلون عليهم ويعرضون أنفسهم لخدمتهم، فكأنما هم منهم! ويعدون الغلبة الأجنبية في بلادهم أعظم بركة عليهم"!

لقد كتب الأفغاني هذا عن المقلدين للتمدن الغربي، الذين كرسوا التبعية للأجانب، وأضاعوا استقلال أوطانهم.. في ذات التاريخ الذي كتب فيه قناصل فرنسا ببيروت إلى حكومتهم طالبين دعم مدارس الإرساليات الكاثوليكية الفرنسية التي ستخرج جيوشا ثقافية متفانية في خدمة فرنسا، وذلك حتى تخضع "البربرية العربية" للحضارة الفرنسية التي روحها الإنجيل!
التعليقات (0)