قضايا وآراء

هل تريد "النخب المهيمنة" إصلاح الإعلام حقّا؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
مع اقتراب الاحتفال بعيد الثورة في الرابع عشر من هذا الشهر، يشعر الكثير من التونسيين بأن أغلب المنابر الإعلامية محكومة بمنطق الارتكاسة أو الردة النسقية عن الأفق الثوري واستحقاقاته، حتى في حدها الأدنى. لقد استطاع المنتجون الحقيقيون للنظام "الرمزي" -وهم أنفسهم الماسكون بأسس السلطة الفعلية منذ عهد المخلوع بن علي- أن يُطوّعوا الإعلام كي يقوم بدور رئيس خدمة لاستراتيجيات الهيمنة الخاصة بهم والتي لا يمكن -بحكم المصالح التي تدافع عنها- أن تخرج عن أفق الثورة المضادة: السعي إلى الربط الشرطي "البافلوفي" بين الثورة وبين كل معاني البؤس والخوف واللايقين من جهة أولى، وتبييض النظام السابق ورموزه وخياراته اللاوطنية من جهة ثانية مع التشكيك -صراحة أو ضمنا- في حصول ثورة حقيقية في تونس.

من البديهيات التي لم يختلف حولها أغلب الفاعلين الجماعيين في تونس بعد الثورة ضرورة إصلاح المنظومة الإعلامية المنحدرة إلينا من عهد الاستبداد والحزب الواحد. وقد كان من بين الهيئات العليا التي أنشئت بعد 14 جانفي (بل قبلها باعتبارها في الأساس جزءا من مشروع «الإنقاذ» الذي كان «صانع التغيير» ينوي الالتفاف بها على مطالب الثورة) هي «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال» التي لن تكون الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري – المعروفة اختزالا بـ"الهايكا"- إلا نسخة معدّلة منها منطقا ووظيفة. وبصرف النظر عن محصول "الهايكا"وعن كل الطعون التي تم توجيهها إلى تركيبتها وإلى دورها "المشبوه" في إعادة إنتاج التضامنات المهيمنة على القطاع الإعلامي قبل الثورة، فإنّه لا يخفى على أحد أنها لا تبدو "الآن-وهنا"جزءا من الحلّ بقدر ما أصبحت هي نفسها مظهرا من مظاهر الأزمة وتجسيداتها المؤسساتية، بل القيميّة أيضا.

منذ 14 جانفي 2011 لم يعنِ إصلاح الإعلام «واقعيا» نفس الشيء بالنسبة إلى مختلف الأطراف المتصارعة على الهيمنة على الرساميل المادية والرمزية للبلاد. فالإعلام له رهانات وأدوار كبرى ليس أقلها تشكيل الرأي العام وتوجيهه بطريقة تخدم مصالح أطراف معينة دون سواها. ولذلك كان ما تعنيه حركة النهضة بالإصلاح بالنسبة لغيرها نوعا من إرادة الهيمنة ومن الرغبة في توظيف الإعلام لأغراض حزبية وإيديولوجية وانتخابية ضيقة. أمّا «استقلالية الإعلام» وحرية التعبير اللتان دافعت عنهما المعارضة بكل مكوّناتها المعروفة بـ"العائلة الديمقراطية" فقد كان بالنسبة للنهضة -في فترة قيادتها للترويكا- نوعا من تثبيت الرأسمال البشري الشيو-تجمعي في مواقع صناعة الرأي العام وذلك قصد توظيفه في إدارة الصراع ضد الترويكا وضد نواتها الصلبة، أي ضد حركة النهضة نفسها.

لكي نفهم بصورة أفضل تلك الاستراتيجيات المتصارعة على «مصائرنا» الفردية والجماعية منذ 14 جانفي 2011، فإن علينا أن نعيد رسم مسار كامل من الأحداث التي انتهت بنا إلى الوضع السريالي الذي يهيمن عليه منطق المنظومة السابقة ورموزها.

يعترف الجميع في تونس بوجود خلل ما في الساحة الإعلامية ولكنهم يختلفون في توصيفه وفي تحديد السياسات القادرة على تجاوزه. فهناك من يُبرر سقطات الإعلام وانحيازيته وتسييسه بمرور القطاع بمرحلة انتقالية. وهذه الصفة الانتقالية تجعل من الطبيعي حصول بعض الانحرافات فيه مثلما هو حاصل في سائر القطاعات الأخرى. ولكنّ منطق "التهوين" هذا يقابله منطق "التهويل" الذي يرى أنّ الجهات المتدخلة في الشأن الإعلامي-من داخل القطاع وخارجه- تتحمّل مسؤلية كبيرة في تأزيم الوضع الإعلامي وذلك عبر إعادة تدوير المترسب التجمعي وجعله المتحكم الأساسي في تشكيل الرأي العام خدمة لمراكز نفوذ جهوية ومالية وإيديولوجية لا علاقة لها بالثورة ولا حتى بالمنطق الإصلاحي.

بين حدّي التهوين والتهويل، من المنطقي أن يبحث المشتغل بالشأن العام عن مواقع بديلة للتفكير في الواقع الإعلامي بعيدا عن "الأمثلة و"الشيطنة" وبعيدا عن المنطق الحدي-الصدامي الذي لم يستفد منه واقعيا إلا بارونات الفساد وشبكات الرعاية المتبادلة التي يشرفون عليها. فالقطاع الإعلامي هو مظهر من مظاهر الأزمة وليس مظهرها الأوحد أو الأكثر خطورة. ولا شك في أنّ مسؤولية القوى المعارضة للمخلوع بن علي عن هذا الوضع أكبر من مسؤولية ورثته في الأحزاب النيو-تجمعية وممثلي المنظومة القديمة. ولكنّ المسؤليات السياسية والأخلاقية داخل صف المعارضة هي نفسها مسؤوليات متفاوتة في درجة التطبيع مع منطق المنظومة الإعلامية الفاسدة وفي تغذية قوّة المقاومة التي أبدتها وسائل الإعلام العمومية والخاصة ضد عملية الإصلاح.

في زمن العولمة، وفي زمن الانتقال من الديمقراطيات التقليدية بشكليها التمثيلي والتشاركي إلى ديمقراطية الرأي العام ، يبدو القطاع الإعلامي ملتقى جملة من إرادات القوة المتنافية أو على الأقل المتصارعة. وهي إرادات داخلية وإقليمية ودولية تتصارع من أجل ضمان مصالحها حتى إن كانت منافية للدستور وللقوانين. ولا شك في أنّ أهمية الرهانات المادية والرمزية التي يراد للإعلاميين أن يدافعوا عنها تجعل من المستحيل «إصلاح» المنظومة الإعلامية دون الدخول في حرب مفتوحة ضد أغلب الفاعلين الجماعيين في الحقول السياسية والمدنية والنقابية والأكاديمية، بل ضد منظومات الفساد والشبكات الزبونية ذات الامتدادات الخارجية التي يتحركون ضمنها.لقد أصبحت  «حرية الإعلام» أو "استقلالية الخط التحريري" سيفا مسلطا على رقبة أية استراتيجيات إصلاحية حتى خارج القطاع الإعلامي. فالحرية والاستقلالية قد تحولتا إلى ورقة ضغط  توظفها اللوبيات المهمينة على الثروات المادية والرمزية لمنع كل من سيحكم في المدى المنظور -كائنا من كان- من القيام بإصلاحات جذرية قد تفقدها ولو جزءا قليلا من امتيازاتها غير المستحقة، بل غير القانونية أساسا.

بعد الثورة، اختارت أغلب القوى السياسية"الثورية" و"الإصلاحية" الاستفادة من «تثبيت» الوضع الإعلامي ومحاولة توظيفه بعد ذلك. ولم يكن "التوظيف" يعني موضوعيا إلا مهادنة الفساد والمفسدين والاستقواء بهم على الخصوم السياسيين والإيديولوجيين. وقد أدى هذا الخيار الاستراتيجي إلى الدفع بالإعلام إلى أقصى درجات التناقض الذاتي -تناقض بينه وبين مطالب الثورة رغم أنه يزعم الايمان بها، وتناقض بينه وبين القطيعة مع ميراث بن علي المهيمن على المشهد الإعلامي-. ولا شك في أنّ العقل السياسي الذي يفكر بهذه الطريقة في التعامل مع القطاع الإعلامي قد استصحب هذا المنطق في التعامل مع الملفات الأخرى -إصلاح المنظومات الإدارية والتربوية والأمنية والجبائية وغيرها- وهو ما أدى في النهاية إلى «ردّة نسقية» عن كل استحقاقات الثورة وإلى عودة المنظومة الحاكمة قبل الثورة إلى مركز السلطة عبر واجهتها السياسية (حركة نداء تونس) وحلفائها في "العائلة الديمقراطية" ومن بعدها في "العائلة التوافقية".  

رغم كل المزايدات والعنتريات التي قد تصدر من هذا الطرف أو ذاك، من الواضح أنه ليس من مصلحة أي طرف سياسي وازن إصلاحُ المنظومة الإعلامية. فالسياسيون جميعا يحتاجون –بدرجات متفاوتة- إلى «فاسدين» يقبلون وضعية الاستلحاق والاستكتاب والتدجين ويؤدون دور كلاب الحراسة الإعلامية للنظام ،كما أنهم هم أنفسهم خاضعون لسلطة المال الفاسد الذي يختفي وراء القنوات الإعلامية الكبرى. وهو ما يجعلنا أمام "مفارقة" كبرى لا ينبغي الالتفاف عليها إن نحن أردنا فعلا إصلاح الإعلام: كيف يمكن "الإصلاح" بنخب وصلت بعد "الثورة" لمراكز القرار السياسي والإداري والنقابي والإعلامي بفضل منظومة الفساد ومن يقف خلفها في مراكز القرار الإقليمي والدولي؟
التعليقات (0)