مقالات مختارة

سينما النصوص… وجهنا الآبدي في مرايا الصورة

واسيني الأعرج
1300x600
1300x600
السينما العظيمة هي سينما النصوص عندما تنجز بشكل جيد ومدروس؛ لأن مساحات التخييل الروائي فيها، والسّنيرة الجيدة للنص المقتبس، توفر إمكانات واسعة للنجاح. لنا في اسم الوردة لأمبرتو إيكو، وإخراج جون جاك آنو، وبطولة شين كونري، مثال نموذجي لنجاح الاقتباس.

صحيح أن بعض التجارب تفشل بشكل واضح وفاضح عندما تخفق، ليس في مضاهاة النص، لأنه ليس مطلوبا منها أن تفعل ذلك، ولكن في نقل روح النص بالقوة الداخلية نفسها. داخل كل رواية عظيمة توجد تفاصيل لا يمكن الاختلاف حولها، وهي مركز الثقل في النص المقتبس. يدرك جميع المختصين أن النجاح غير مرتبط بالضرورة بالوفاء الحرفي للكتاب، ولكن بالذهاب نحو جوهره سينمائيا، أي بالأدوات والتقنيات التي تفرضها السينما. 

من هنا يبدو أن النصوص العظيمة والناجحة، هي تلك التي استطاعت أن تخترق الزمان، وتتجاوز حدود العصر الذي أنتِجت فيه لتتحول إلى أيقونة لا زمنية. انتقالها من الكتابة إلى السينما لا يلغي قيمتها، ولكنه يرسخها في الحاضر الذي تصبح جزءا حيا منه. تتحول إلى تعبير متعال عن زمن وعصر يعاش، على تماس مستديم مع حاضر ينشأ أمام أعيننا، ويتفكك في مشهدية تراجيدية، وماض لم يغير إلا قليلا من قيمه، ومعتقداته، وحتى ثقافاته لأنها لا تتبدل بسرعة وإن تخطاها الأدب بأدواته الاستشرافية.

إضافة إلى أن هذه النصوص اشتغلت على موضوعات إنسانية واسعة، مستمرة مع الإنسان منذ بدء الخليقة، كالحب، والكراهية، والنبل، والخوف، والبطولة، والخيانة، والحرب والسلام وغيرها. كل ما يصنع حاضر الإنسان المرتبك، ومستقبله الغامض. لقد شهدت السنوات الأخيرة إنتاج أفلام كثيرة كان مصدرها الأول روايات أو مسرحيات عالمية، كمسرحية فاوست لغوته، وروميو وجولييت لشكسبير، وروايات البؤساء والرجل الذي يضحك لفيكتور هوجو، آنا كارنينا للكاتب الروسي تولستوي، وحجر الصبر للكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، وزبد الأيام لبوريس فيون، الاعتداء لياسمينة خضراء، الخبز الحافي لمحمد شكري، ثلاثية ملينيوم لستيغ لارسن، وثلاثية «التحولات الخمسون» لغري لمؤلفها أ. ل. جيمس، وغيرها من الروايات العالمية الكثيرة.

الجميل هو أن هوية هذه الأفلام وغيرها، ليست هوية كتابها بالضرورة، لأن أغلبية النصوص المنتجة دخلت في الميراث الإنساني، والاهتمام بها سينمائيا أصبح متاحا أمام الجميع وأسهل. البؤساء إخراج توم هوبر، من إنتاج بريطاني ضخم 2012، زاوج بين الكوميدية الموسيقية على الطريقة الأمريكية، والتخييل القصصي. سبق أن أنتجتها برودوي مسرحيا، وبقيت سنوات طويلة على واجهاتها. آنا كارنينا لم تنتجها روسيا ولكن فرنسا وبريطانيا 2012، إخراج جون ورايت، بمسحة مسرحية شيكسبيرية درامية. حجر الصبر للكاتب الأفغاني عتيق رحيمي نصا وإخراجا، إنتاج مشترك لعب فيه المال الفرنسي والألماني، دورا محركا مهما. الاعتداء، لزياد الدويري، إنتاج فرنسي بلجيكي قطري مصري. فضل الليل على النهار إنتاج فرنسي، وإخراج ألكسندر آركادي 2012. طوطم الذئب للكاتب الصيني رانغ إنتاج فرنسي صيني تحت عنوان الذئب الأخير.

تبدو سينما المؤلف اليوم التي يسيطر فيها المخرج كليا على فيلمه من الوجهة الفنية والدرامية وحتى المونتاج أو التركيب، ويعتمد نصا محكوما بصيغ ذاتية وذائقة خاصة. لم تعد حدود اللغة والزمان والموضوعة، مشكلات معطلة للعمل السينمائي. البشرية في النهاية واحدة ومشاكلها الأرضية بحروبها وصراعاتها، والسماوية التي جعلت من الأديان مشكلة بدل وسيلة حب وتسامح وتسيد التطرفات المختلفة، متداخلة ومتقاطعة. فقد اخترقت السينما كل الحدود التي كانت تبدو صعبة وحتى مستحيلة. فائدة السنيما أنها ترمينا في زمن ملتبس هو بين الماضي والحاضر، نكتشف فيه فجأة كم أن البشرية تتشابه في معضلاتها الكبرى، هي هي، في يومياتها ومآسيها الجوهرية وحروبها المصلحية. القيم الأدبية الخالدة التي أنتجتها النصوص الأدبية، الروائية تحديدا، تؤهلها لهذه الاستمرارية، وربما الخلود. لم تعتمد على الآني والسياسي والأيديولوجيا الطارئة التي تتغير بتغير الأحوال، ولكن على ما هو إنساني وبعيد ومستمر أبدا.

القيم البشرية ونقيضاتها، كالحب والكراهية، الخير والشر، الشجاعة والجبن، السلام والحرب، وغيرها، تظل قيما تتخطى عتبات الزمان والمكان، ونوعيات البشر، والطارئ. يمكننا أن نقرأ اليوم مآسينا الحاضرة في هذه النصوص المقتبسة سينمائيا. الأمر الذي يجعلنا نقرأ أنفسنا فيها. البؤساء يرجعنا بالضرورة إلى الثورات العربية، والحروب الأهلية، وطفولاتنا الشبيهة لغافروش. شيء من أم كوزيت ما يزال مستمرا في أمهاتنا. في حجر الصبر الكثير من العلامات المشتركة مع الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر أو لبنان، وتعيشها اليوم سوريا والعراق وليبيا، التي أكلت من البشر حتى تجشأت.

البشرية في النهاية، على عظمة منجزها، تظل مثل الطاحونة، تعيد إنتاج مآسيها أحيانا بالتفاصيل نفسها، وبالدقة ذاتها أيضا. في خيانات آنا كارنينا إحدى سيدات مجتمع سان بيترسبورغ، والظلم المسلط عليها، الكثير من مشاغل عصرنا العاطفية التي لا تنتهي أبدا وتعيش فينا ومعنا من خلال حوادث نسمعها هنا وهناك بالخصوص عندما نعرف أن تولستوي اعتمد على حادثة حقيقية رأى فيها جارته تلقي بنفسها تحت عجلات قطار مزق أطرافها في محطة لاسينكي. الحب والخيانة الزوجية قيم نسبية.

فهل نحب آنا كارنينا لأنها كانت صريحة وصادقة في حبها ومجنونة بالمعنى العشقي للكلمة، فذهبت مع فرونسكي؟ أم نكرهها لأنها خانت زوجها ألكسيس كارنينا، الذي لم تكن تهمّه في النهاية إلا وجاهته ومنصبه وقربه من المؤسسة السلطوية القيصرية؟

لم يترك في النهاية أمام آنا كارنينا من سبيل إلا الخيانة بالمنظور الاجتماعي، ومغادرة ابنها سيرج، ثم الانتحار. هذا يعني شيئا واحدا، هو أن النصوص الكلاسيكية، بالخصوص الروايات الكبيرة، ما تزال حية وقائمة ومستمرة فينا. في كل اقتباس سينمائي نكتشف كم تشبهنا في تفاصيلها، وكأن الزمن مثبت في مركز واحد، ندور حوله بمآسينا وخيباتنا وهمومنا المتكررة.
0
التعليقات (0)