قضايا وآراء

"اللغة ومجتمع المعلومات"

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
أضحى من شبه المؤكد أنه لا يمكن فصل اللغة والثقافة عن التحولات الكبرى التي تعرفها منظومات المعلومات والمعرفة والاتصال. كما أضحى في حكم المؤكد أن الإشعاع اللغوي هو أيضا وبالأساس من الإشعاع الثقافي، وأن إدراك هذا الأخير لا يمكن فصله عن الواقع الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي والسياسي وما سواه.

بالتالي، فإن انبعاث وتكريس النظام التكنولوجي الجديد، المتفرع عن ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال، لا يبدو لنا مسائلا للغة بقدر ما هو مسائل للثقافة. ومعنى هذا أن اللغة لا تعدو من هنا سوى كونها وسيطا بين الثقافة وذات النظام، لن يكون لها في ذلك من دور كبير يذكر اللهم إلا ما تقدمه لها الثقافة أو ما يتسنى لها ترويجه بداخل الشبكات.

ومعناه أيضا أن الاندماج المتزايد للمعطى والصوت والصورة في منظومة واحدة موحدة، تتفاعل انطلاقا من نقط متعددة ...داخل شبكة كونية بالإمكان بلوغها دون تكاليف كبرى ...هذا الاندماج إنما سيحول حتما طبيعة الاتصال ...والاتصال بدوره سيشكل ثقافتنا بشكل جذري، ما دام أن الذي نراه ليس هو الواقع كما هي لغاتنا، ومادامت لغاتنا هي وسائل إعلامنا ليس إلا.

فالثقافة، في ظل هذا النظام التكنولوجي الجديد، إنما تتموسط وتقيم من خلال الاتصال... ومن خلال الثقافات ذاتها،  أي من خلال المنظومة التاريخية المشكلة من الاعتقادات والرموز التي تتحول جذريا وستتحول أكثر مع النظام التكنولوجي الجديد".

ليس ثمة شك إذن أن بروز نظام الاتصالات الألكتروني الجديد (وفي صلبه شبكة الإنترنيت وثورة البث التلفزي الرقمي العابر للحدود وغيرها) ذي البعد الكوني، كما أن تزاوج وسائل الإعلام وتزايد التفاعلية ضمنها...كل هذا حول وسيحول ثقافاتنا إلى ما لا نهاية.

بالتالي، فمستقبل الثقافات كما اللغات،  إنما يتحدد بقدرتها على التواجد بهذا النظام    و قدرتها على تمرير المضامين والمعارف بداخله، إذ " في مواجهة تقدم لغة كونية ضاغطة، فإن لغة كل بلد وثقافته إنما سيكونان  صورة لما نريده لهما اليوم، وليس شيئا آخر.

والمقصود هنا هو القول بأن انفجار الوسائط الألكترونية (لا سيما المتعدد الأقطاب وشبكة الإنترنيت) إنما سيكون من شأنه قلب مفهوم التواصل اللغوي المعتاد إلى حين عهد قريب، فاسحا في المجال " لمرحلة جديدة "، ... مرحلة  "ما بعد الكتابة"، حيث يمتزج المكتوب بالمسموع، المرئي بالثابت وبالمتحرك، مكونين بذلك رسالة اتصالاتية كثيفة المعلومات".
 
سنكون إذن بإزاء " نقلة نوعية أقل ما يقال عنها إنها ثورة في أسلوب التواصل الذي اعتاده البشر منذ الأزل، وليس لدينا تصور واضح عن طبيعته ولا عن توجهاته ولا عن آثاره النفسية والاجتماعية واستخداماته الشخصية وغير الشخصية، ولكنه سيطرح  بالحتم عددا من الأسئلة المحورية حول العلاقات بين أنساق الرموز المختلفة نصوصا وأصواتا وأشكالا وغيرها.
 
يبدو الأمر إذن، مع تطور هذه الوسائط وانتشارها السريع، أن اللغة أضحت في الآن ذاته، وسيطا مثلها وحاملا لمنظومة رمزية بالإمكان تلمسها من خلال ما يصطلح على تسميته ب "الثقافة الافتراضية". معنى هذا أن شبكات المجتمع المعلوماتي إنما تتميز بقدرتها غير المسبوقة على ربط كل التعبيرات الثقافية كائنة ما تكن مستويات تباينها وتعددها.
 
يقول مانويل كاسطيل بهذا الصدد: "إن بروز هذه الشبكات (لا سيما المتعدد الأقطاب والإنترنيت) إنما تتوازى "وتحطيم الحواجز والتمايزات بين وسائل الإعلام السمعية/البصرية والمكتوب، بين الثقافة الشعبية والثقافة العارفة، بين الفرجة والمعلومة، بين التربية وعملية الإقناع. كل تعبير ثقافي، القبيح كما الجيد، الأكثر نخبوية كما الأكثر شعبية، كلها ستذوب في هذا الفضاء الرقمي الذي يربط في إطار نص تاريخي ضخم كل تعبيرات الذهن الماضية كما الحاضرة كما المستقبلية".
 
لا تبدو اللغة، في هذا الإطار، مستقلة عن الثقافة، بل أضحت في صلبها، ما دامت الثقافة ذاتها هي " نتاج عمليات تواصل"، لا على اعتبار أن كل أشكال التواصل ترتكز على عمليات إنتاج واستهلاك الرموز فحسب، بل وأيضا لأن كل المجتمعات تعيش وتتحرك في محيط رمزي بهذه الطريقة أو تلك.
 
بالتالي، فالمستجد، في نظام التواصل الجديد، المنظم حول الاندماج الألكتروني لكل أنماط الاتصال (حتى الحسي منها)، لا يتمثل فقط " في كونه ينتج واقعا افتراضيا، بل لأنه  يبني للافتراضية الواقعية" بامتياز.
 
وعلى هذا الأساس، فالرسائل، في ظل هذا المجتمع، إنما " تشتغل على أساس نمط رقمي... وكل رسالة مطالبة بالمرور عبر هذا النظام المندمج كي يتسنى لها الإرسال والتأصيل في المجتمع. ومن لا تتمكن من ذلك تبقى محصورة في المخيال الفردي أو في الثقافات المهمشة، ثقافات الوجه لوجه".
 
من هنا، فإن التواصل الالكتروني (المطبعي أو السمعي أو البصري أو المؤتمت) سيغدو هو التواصل، وما سواه (أي من لا يركب قطار الشبكات) لن يكون من قيمة تواصلية له تذكر.

ولما كان هذا النظام ممركزا ومصدرا للبث أحادي، فإن خطر الهيمنة والتنميط الذي يطال مختلف التعابير الثقافية، سيبقى مطروحا مادام بلوغه يشترط التكيف مع منطقه ولغته وثقافته.
التعليقات (0)