كتاب عربي 21

الديمقراطية الغريزية التونسية

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
البلد يغلي ونحن نرى بخارا كثيفا، ولكن ما هي الوجبة التي تطبخ على مواقد السياسة في تونس. لقد جاع الأطفال والكهول أيضا، ولكن الوجبة لا تزال تغلي، وبعضنا يستنكف أن يكشف الغطاء لكي لا يجد الحصى الذي يعد لوجبة من التغيير الكاذب. 

بعد كل هذا الوهم بالحركة، متى يفيء التونسيون إلى أن هذا الرغاء الكثير ليس صوتا محمودا، بل قرع براميل فارغة لم يعد كافيا أن نقنع به الناس بديمقراطية اللوبيات عبر الإشارة المتكررة إلى خراب بقية الأقطار العربية سياسيا وانحدارها إلى حروب أهلية ماحقة للإنسان العربي المسكين.

المشهد التونسي مشهد يراود الحرب، ولا ينقصه إلا الكلاشنكوف، وهو غير بعيد عن متناول الأيدي؛ فالتجربة التونسية تسفر عن وجه بشع كان يتربص بالعملية السياسية برمتها، وكانت الدلائل عليه تتوالى، ولم ترتق الطبقة السياسية إلى مستوى ردعه وتعديله لبناء تجربة ديمقراطية عادلة. ونرى ثلاثة عوامل مؤثرة دفع إلى ذلك؛ أولها قوة الطبقة التي أثرت من الفساد وترفض الخضوع للقانون. تعاضدها نقابات قطاعية شرسة تعمل فقط على مصالح منظوريها بقطع النظر عن قوانين التعايش الديمقراطي وكل ذلك في مشهد حزبي مفتت وفاشل.

طبقة رجال الأعمال الفاسدة المفسدة

ليس خافيا على أحد في تونس وما حولها أن طبقة رجال الأعمال في تونس هي طبقة أثْرَت من أعمال الفساد في زمن بن علي، حين كانت أساليب الرشوة السياسية مقابل الولاء للنظام هي قاعدة الكسب. وكانت آليات العمل هي الاستحواذ على المال العام عبر طرق شديدة التعقيد كالشركات الوهمية التي تقترض بدون ضمانات وتمتهن المناولة مع الشركات الأجنبية فدمرت نواة جنين صناعات وطنية لم يمكن لها المنافسة في سوق فاسدة. فضلا عن عملية التفويت في أهم المؤسسات الصناعية كصناعة الإسمنت. وكان التهرب الضريبي إحدى إبداعاتها العبقرية، كان نظام بن علي يبتز هؤلاء لفائدته الشخصية السياسية والمالية، فلما انجلى عنهم مع أسرته المافيوزية انطلقوا بكل جهدهم في إعادة إنتاج أساليبه، وتحولت كل الطبقة إلى مافيا. 

وقد أفلح هؤلاء في اصطناع إعلام فاسد أكمل التغطية على فسادهم وتوجيه الرأي العام نحو قضايا هامشية شغلت الناس عن جوهر ثورتهم، حتى صار للكلاب السائبة في الطرقات مناصرون يتظاهرون لحمايتها في حين تقبع فئات اجتماعية كثيرة تحت خط الفقر. وقد تجلت قوة هذه الطبقة في مناقشة موازنة 2017، فكل إجراءات تحصيل الضريبة تجتنبهم وتسلط سيف الجباية على الموظفين وعلى صغار المهن العاجزة عن الدفاع عن نفسها والمضحك المبكي في المسألة أن هؤلاء يتحججون بأنهم الضمانة الوحيدة لإطلاق عملية اقتصادية جديدة ونشيطة تعالج مشاكل التشغيل وفقدان التوازن بين الجهات. دون أن يسمحوا لأحد بمساءلتهم عما منعهم أن يفعلوا ذلك منذ زمن بن علي.

نقابات قطاعية تحمي اللوبيات المهنية

أمام شراسة هذه الطبقة وتنصلها من كل تضامن وطني، جاء رد النقابات المهنية تحت شعار (لا تحاسبونا بل حاسبوهم). فوجدنا الأطباء ثم المحامين ثم رجال التعليم يقفون جدارا عاليا أمام فرض ضريبة عادلة على الجميع. فكل قطاع منظم حرّك "قواته الخاصة" ونزل إلى الشارع ليرغم البرلمان ثم الحكومة على نظام من الإعفاءات يجعله خارج مبدأ التضامن الضريبي. واستحضرت لذلك كل الحجج فمَنَّ المحامون على الناس بعض نضالهم في القضايا السياسية (لأن بعضهم لا كلهم رافع في قضايا سياسية زمن الدكتاتورية)، ومَنَّ الأطباء بعض شفقتهم على المرضى (بأنهم فحصوا ذات يوم مرضى بالمجان) جاعلين من ذلك ذرائع لكي يستعفوا من الضريبة القانونية والتي تعبر عن انتماء حقيقي للمجموعة الوطنية. كلُّ يرمي كرة اللّهب الضريبي بعيدا ولا يهتم أن تحرق الأرض من حوله، وكما احتد النقاش حول وجوب المساواة الضريبة وبأنها عامل مؤسس للوطنية دفعت القطاعات المهنية بحجتها لتحاسب الفساد والفاسدين، متناسين بأنهم يتحولون بتهربهم إلى جزء مكين من هذا الفساد الذي يفكّك بنيان الدولة، وهو الحصن الأخير الذي بقي يجمع التونسيين في غياب مشروع تنموي ومشروع ثقافي مؤسس لكيان وطني قوي ومحترم في محيطه وفي تاريخه. لكن لماذا تستشرس النقابات المهنية على الدولة؟

مشهد حزبي فقير مدقع

إن قوة النقابات ليست عيبا في الديمقراطية لكن عندما تعمل بشكل قطاعي خارج كل وازع وطني فإنها تقوم بتفكيك المجتمع وتحرض الاحتراب الأهلي والمخول بالحدّ من تغولها المهني هو الأحزاب السياسية التي تحتكم إلى مشروع وطني فوق السكرتارية المهنية لكن هذا الرادع الحزبي غائب في تونس. بل إنه يتفكك ويتراجع؛ ففي تونس حزب واحد منظم في هياكله ويخترق كل اللوبيات المهنية لكنه لا يقدم لها مشروعا وطنيا بل يساير خائفا أن يخسر قواعده في جمهور هذه النقابات. وتغيب بقية مكونات المشهد الحزبي، فالحزب الحاكم على الورق (حزب النداء) صار أحزابا تنشغل كلها بصراعاتها الداخلية وبخار صراعاتها يعفن الوضع السياسي برمته، بينما تراجعت بقية الحزيبات إلى طبيعتها الحوانتية، فهي ليست أكثر من أمين عام وكاتبته وعبور سريع في بلاتو تلفزي. 

الأحزاب في تونس تخاف من النقابات والوقوف عند هذا الخوف معطى مهم لفهم المشهد الحزبي الهش؛ فتقاليد العمل النقابي في زمن الدكتاتورية جعلت السياسيين يتخفّون داخل النقابات، واكتسب الجميع جماهير(أنصار) خاصة داخلها توظف الآن كأرصدة لمزيد كسب الجماهير داخل النقابة لا خارجها؛ لذلك يصبح العمل الحزبي ثانويا إزاء التسرب النقابي والكمون في مفاصل النقابات. وتعجز الأحزاب الآن عن التخلي عن هذه القوة المدخرة في النقابات فتلغي المشروع الوطني الفوق نقابي. ثم ولحفظ أرصدة القوة داخل النقابة تصبح المزايدة القطاعية (المطلبية الفجة) مقدمة على كل مشروع وطني جامع.

لم نسمع أي نقد من جهة حزبية لتغول النقابات القطاعية، رغم أن الجميع يرى أن المطلبية غير منطقية خاصة لجهة التهرب الضريبي. وهكذا وفي نهاية السنة الخامسة للثورة يبدو الجميع خائفا من الجميع، وكل يتربص بالكل. ويهيمن إحساس عام بالرعب لدى القطاعات غير المنظمة نقابيا فالمنظمون يحمون أنفسهم بينما ينزل المعصار الضريبي على الفئات الأضعف تنظيما.

وجه الديمقراطية الغريزية

إنه سافرٌ جليُّ الآن وهنا. ولا ينقصه إلا الكلاشنكوف. كان هذا غالبا على المطلبية التي انفجرت بعد الثورة مباشرة وفُسِّرت حينها بالحرمان الكبير من منافع الدولة كما أوِّلت على أنها نتيجة تحريض سياسي من النظام القديم نفسه. لكن بعد أن تنظمت في نقاباتها تبين أن الانتماء في الغالب ليس إلى الوطن، بل إلى الذات الفرد؛ حيث يقدم كل فرد مطلبه على كل انتماء لجماعة تزدهر بتضامنها لا بتفككها. 

ربما علينا هنا أن نستعيد كل تاريخ بناء الدولة الوطنية ونطرح الأسئلة الجوهرية عما ربت عليه الأفراد منذ البداية هل كان لهذه الدولة مشروع وطني أم أنها حرضت غريزة البشر على البقاء وكانت تقسط عليهم حقهم فيه حتى انفجرت الثورة فانفجرت غرائزهم الفردانية المقموعة وخرجوا من الدولة ومن الوطن إلى ذواتهم المطلقة.

ربما علينا أن نسأل بجدية: من هو التونسي فعلا؟ فبعد خمس سنوات من الثورة نرى أمامنا أفرادا لا مواطنين، ولا يشدهم إلى الوطن (وهي كلمة غريبة في هذا التفكير) إلا مكاسبهم منه؛ لذلك قد تسمح لنا هذه النافذة في فهم سلوكيات أخرى كالتصويت بمقابل مالي سريع ولو بعودة النظام الفاسد، وكالهجرة السرية وكالانتماء إلى داعش بمقابل مالي وكاستسهال الارتزاق من الجمعيات المشبوهة وبناء التحالفات مع أنظمة معادية والتموّل منها. 

إن ما يبنى الآن في تونس ليس نظاما ديمقراطيا، وإن أوهم العالم بذلك، بل هي عملية اقتسام مغانم بحسب القوة المتاحة، ولن يتأخر انفجار العنف؛ لأن المغنم أقل بكثير من الطامعين وبخار طبخة الحصى لم يعد يغري بانتظار وجبة دسمة.
التعليقات (0)