مقالات مختارة

زواج إشكالي بين المسرح والرواية والحياة

واسيني الأعرج
1300x600
1300x600
ليس عبثا أن يكون المسرح، وهو أبو الفنون تاريخيا، نمطا يتسع لاحتواء بقية الفنون الأخرى. فهو الحد الفاصل، والجامع أيضا، بين الحقيقة والتخييل. حتى ولو كانت المسرحية عمليا تخييلا، فالذين يؤدونها عمليا بشر حقيقيون، يشبهوننا في كل شيء، ويتحدثون معنا بصوت عال. يتلونون بحسب الأدوار الموكولة إليهم، لكنهم في النهاية أناس من لحم ودم. لهذا، كثيرا ما اعتبر المسرح، في لعبة تماهيه مع الإنسان، فنا خطيرا، فيتعرض للبتر أو المنع.

فالشخص الذي يواجهنا من لحم ودم، ويمكن أن يكون نحن. لكن هذا الفن الحي والعالي يعاني من ضعف كبير، وندرة واضحة في النصوص، بعد ذهاب عمالقة الكتابة المسرحية العرب وكبارها، وخلت الساحة منهم، أو كادت، وكان آخرهم المسرحي الكبير سعد الله ونوس، الذي وفرت نصوصه مادة مسرحية عالية الجودة، أخرجت مرات عديدة حتى كادت تستهلك بفعل التكرار.

العمل من جديد على مسرحية من المسرحيات، يحتاج بالضرورة إلى شروط ضابطة له لتفادي التركيب الشكلي، وإعادة الإنتاج التكرارية، والتفكير في ماهية الجديد لمسرحيات قديمة، تأويلا وتقنيات وسينوغرافيا. بعد انطفاء هذا الجيل الكبير، والجيل الذي قبله الذي جعل من المسرح والموسيقى والفنون جزءا حيويا من حياته اليومية، يؤثث بها أوقات العطل ونهايات الأسابيع، ساد شيء يشبه الفراغ، ترتبت عليه نتائج شديدة الخطورة: ضمور المسرح كفاعلية ثقافية، تشتت الفرق المسرحية أو تحولها إلى بطالة مقنعة، طرد لعمال المسرح ورواتب بلا عمل حقيقي، والضربة الأقسى القاصمة للظهر، التي ما يزال المسرح العربي يعاني منها بقوة، هي تشتت الجمهور المسرحي الذي تم تأسيسه عبر عشرات السنين ولا بدائل حتى اليوم قط.

هذا ما يبرر فراغ قاعات العرض المسرحي، في أغلبية البلدان العربية باستثناء المسرح التجاري الذي يلوث الذائقة العامة في أغلبه، والمناسبات المسرحية، والمهرجانات التي يتجمع فيها عادة المسرحيون والمتفرجون القاطنون بالقرب من أمكنة العرض. قد تمتلئ القاعات بهذا الجمهور وبالجمهور المستعار، رهين المناسبة، أي المتأتي من مجموع أفراد الفرق الحاضرة في المهرجانات وهي طبعا مكونة من مسرحيين عرب وعالميين، يريدون اكتشاف ما يتم إنجازه عربيا وعالميا، إذ تشكل المهرجانات المسرحية الوسيلة المثلى لهذا الاكتشاف. لكن، سرعان ما ينسحب الكل عائدا إلى أرضه، تاركا وراءه قاعات عظيمة وحديثة فارغة وبدون سكانها الطبيعيين. لا تكفي البنى التحتية، على أهميتها، ولكن الأمر يتطلب بالضرورة العمل على تكوين وتربية جمهور يحب المسرح ويفهمه.

مشكلة الجمهور أساسية، بل لا مسرح بدون فنانيه ومرتاديه وعشاقه. الجمهور الذي يخسره المسرح، في حقبة من الحقب، هو خسران أبدي لا يعوض. من الصعب تجديده خارج الإمكانات المالية غير المتوفرة اليوم، وخارج الرهانات الزمنية المتوسطة والطويلة. تكوينه وبناؤه يمران بالضرورة عبر القناة الطبيعية التي هي المدرسة، تكوينا وممارسة، في ظل الغوايات الكثيرة والمعقدة التي تفرضها وسائط التواصل الاجتماعي المعقدة، وتنسيقا كبيرا بين الوزارات المعنية، الثقافة والاتصال والسياحة وغيرها.

أولى عتبات الحب المسرحي، هي تعليم المسرح كمادة ثقافية والعمل عليها كتابة وممارسة، وتكوين الفرق المسرحية المدرسية والجامعية الهاوية. فتح مدارس للفنون الدرامية والتكوين الحقيقي والتخصصي والدورات التكوينية، لدخول المكوَّنين في سوق العمل المسرحي والفني محملين بالمعرفة والخبرة الفعلية. هذا الجفاف في غياب النص المسرحي العربي دفع بالكثير من المسرحيين إلى التوجه نحو جنس يبدو، في ظاهره على الأقل، أكثر توهجا: الرواية. هناك حركية روائية عربية كبيرة، ومتنوعة وواسعة، تنبه لها بعض المسرحيين الذين اجتهدوا في اقتباس العديد من الروايات ركحيا، بعد أن أخضعوها للتقنية المسرحية بالوسائط الفنية المعروفة. فكان أن أخرج الكثير منها على خشبة المسرح مما سدّ نقصا ملموسا في النصوص. رد الفعل العام على هذه الجهود كان إيجابيا. 

تجربة الجزائر رائدة في هذا المجال، بسبب الحاجة الكبيرة والحادة مما دفع بالمسرحي الكبير ومحافظ مهرجان المسرح المحترف المرحوم محمد بن قطاف، إلى دفع الجهد المسرحي نحو الفعل الاقتباسي من الرواية. تحول زواج المسرحية/ الرواية إلى خيارات مسرحية حقيقية تم تشجيعها والدفع بها إلى الأمام. فحققت هذه التجربة مجالات جديدة للمسرح إذ وفرت نصوصا عالية القيمة، ووسعت من مساحة المقروئية الروائية. هذه المساحة البكر تمّ استثمارها بشكل فعّال وحقيقي. 


اقتُبِستْ أعمال روائية تشكل اليوم جزءا من الريبيتوار الروائي الجزائري والعربي والعالمي: محمد ديب، مولود فرعون، كاتب ياسين، يامنة مشاكرة، مالك حداد، الطاهر وطار، رشيد ميموني، عزيز شواقي، ، الحبيب السايح وغيرهم كثيرون. لكن هذه الخيارات طرحت أيضا مشكلة معقدة تتعلق بالاقتباس. هناك غياب كلي للمدارس المسرحية المتخصصة في الاقتباس المسرحي وحتى السنيمائي، ما وضع المشروع الطموح كله على حافة الفشل والإخفاق. الاقتباس تخصص قائم بذاته ويخضع لقواعد حقيقية تتجدد باستمرار وتسمح بالاستثمار الجدي للأنواع السردية الأخرى. فهو ليس فقط عملية تقنية، لكنه إعادة خلق. أي هو إبداع بشكل آخر. لا يمكن أن نتصور اقتباسا روائيا دون فهم حقيقي، لآليات السرد الروائي وما يمكن أن يفيد به المسرح، وخاصيات المسرح أيضا. في معظم ما يقدم عربيا، نلحظ هذه النقيصة التي تحجم من الفعل المسرحي.

على الرغم من نبل الفكرة والنجاح العام الذي حققته النصوص الروائية الممسرحة، إلا أن الكثير من الجهود الروائية تمّ تسطيحها بشكل أفقدها إبداعيتها وجوهرها. فكان أن خسرنا الرواية بسبب التصورات الناتجة عن المشاهدة المسرحية، وخسر الجمهور المسرحية المحتملة التي عُوّضت حركتها بسردية ثقيلة بسبب الاقتباس الفاشل، والحوارات والخطابات الطويلة التي لا يتحملها المسرح، على الرغم من توفر النية الطيبة، لدرجة أن بدت الرواية المستَثْمَرَة مسرحيا، كجسم غريب على فن محكوم أصلا بالدينامية والحيوية. 

المسرح فاضح؛ لأن الاختلال فيه يُلْمَس بسرعة. الحاجة إلى المسرح أكثر من ضرورة. هو الحياة نفسها مختصرة في ساعة أو ساعة ونصف ساعة. أي استثمار فيه ليس خسارة، مهما كانت درجة تفاقم الأزمات. يكفي أنه يسهم في خلق مجتمع متوازن يخفف من حدة المخاطر والهزات العنيفة. أكبر مدرسة للفرح والتفكير والحياة والنور. 
0
التعليقات (0)