قضايا وآراء

انقسام اليسار الفرنسي وأفق الانتخابات الرئاسية

محمد مالكي
1300x600
1300x600
خلف الإعلان الرسمي عن الانسحاب المفاجئ لـ"فرانسوا هولاند" من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة رجة كبيرة داخل الوسط السياسي الفرنسي، وأساسا في صفوف اليسار الاشتراكي، بكافة أولوانه وتعبيراته. واللافت للانتباه في قرار الرئيس الفرتسي "هولاند" تلميحه، حتى وقت قريب، لنيته خوض منافسات الانتخابات المزمع تنظيمها ربيع 2017، لكن سرعان ما تراجع مُقدرا أن مبادرته في التقدم لولاية رئاسية ثانية غير مدعومة بما يكفي من التأييد، وأن الإجماع حوله من قبل أنصاره في الحزب أولا، ومن لدن بقية الناخبين الفرنسيين المؤيدين للحزب الاشتراكي ثانيا، غير متوفر، لاسيما وأن نتائج استطلاعات الرأي كشفت عن تقهقر مكانته في سلم المتنافسين في الإنتخابات الرئاسية من اليمين واليسار على حد سواء.

يُلاحظ القارئُ الكريم كيف حملت الانتخابات الأخيرة في أكثر من بلد من بلدان العالم نتائجَ مفاجئة لكل التوقعات، حدث ذلك أولا في أكبر دولة وأقواها في العالم، أي أمريكا، وحصلت في الانتخابات الأولية في فرنسا، بإقصاء كل من "ألان جوبي"، والرئيس السابق "نيكولا ساركوزي"، وها هي تثني عزيمة رئيس اليسار الاشتراكي عن الترشح مرة ثانية، ليشكل قرار "فرنسوا هولاند" سابقة لم تشهدها الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ تأسيسها عام 1958. يُذكر أن الرئيس الفرنسي الجنرال "ديغول"، حين لم ينه ولايته سنة 1969، وانسحب من الحياة السياسية، حصل ذلك بمحض إرادته، وانسجاما مع الوعد الذي قطعه على نفسه، عندما ربط نتائج الاستفتاء باستمراره أو استقالته، وفعلا كانت النتيجة السلبية للاستفتاء سببا مُفضيا إلى استقالته. يُضاف إلى ذلك، ذهبت مختلف وسائل استطلاع الرأي إلى أن الرئيس "هولاند" كان أقل رؤساء الجمهورية الخامسة شعبية، وأن منحنيات قبول المواطنين لأدائه ونتائج حصيلته شهدت تقهقرا متزايدا منذ الشهور الأولى من ولايته الرئاسية.

جدير بالإشارة إلى أن ضعف الرئيس "هولاند" لم يكن نابعا من تواضع حصيلته فحسب، أو تربص خصومه من اليمين ووسط اليمين به، بل جاء بفعل إضعاف رفاقه من الحزب له، وتنافسهم، وتطلعهم لقتل صورته قبل نهاية ولايته، فبالأحرى الانتظار إلى حين الإعلان عن عدم ترشحه. فاليسار الاشتراكي موزع بين أكثر من اتجاه وشخصية، كما أن مكوناته الأساسية كالشيوعيين و الخضر، أو المدافعين عن البيئة، تعاني بدورها من الضعف والانفسام، ولا تبدو قادرة عن التكاثف من أجل تشكيل "تحالف" قادر على الحسم في مشكلة من سيمثل اليسار بكل أطيافه بعد الانتخابات الأولية المقبلة في 29 يناير/ كانون الثاني 2017، وتاليا من سيقود الاشتراكيين عموما في انتخابات الرئاسيات في أبريل 2017؟

فلو أخذنا الحزب الاشتراكي لوحده، للاحظنا وجود أكثر من مرشح متنافس بداخله، وأكثر من تيار يخترق جسمه السياسي والتنظيمي، ولعل هذا ما أضعف الرئيس الحالي "هولاند"، ودفع به من حيث لا يدري، إلى الانسحاب دون سابق تخطيط أو تصميم. فمن جهة، هناك ثلاثة أسماء أعلنت نيتها في التقدم إلى الانتخابات الأولية لليسار، وتقدم من يَتصدر منها القائمةَ إلى الرئاسيات ممثلا لليسار، هي: Montebourg، الوزير السابق، وEmannuel Macron، وJean Luc Melanchon، وبدون شك سينضاف إليهم الوزير الأول في حكومة "هولاند" الحالية Manuel Walls، وربما هناك مرشحون من الحزب الشيوعي وحزب الخُضر.. نحن إذن أمام مجموعة من المترشحين من العائلة اليسارية والاشتراكية، يجمعهم الانتساب لنفس منظومة القيم، لكن تتنازعهم الرؤى المتباينة حول ما يجب أن تكون عليه فرنسا مستقبلا.

يمكن التأكيد بدون تردد على أن اليسار الفرنسي بمختلف تعبيراته يعيش حالة من الضعف والانقسام، لم يشهد نظيرا لها منذ سنوات، أما مصادر ذلك فكثيرة ومتعددة. فمن جهة، ثمة تراجع في فكرة "اليسار والاشتراكية" عموما منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. وعلى الرغم من بعض حالات النهوض هنا وهناك الحاصلة في بعض البلدان (اليونان، إسبانيا، إلى حد ما إيطاليا)، فما زال اليسار مترنحا، ويعيش حاجة ماسة إلى إعادة روح التجديد في مشروعه، كي يصبح قادرا على مواكبة التغيرات النوعية التي شهدها العالم في العقود الثلاثة الأخيرة.. ودون شك سيؤدي الفرنسيون فاتورة هذا التراجع المتصاعد في منظومة العائلة الاشتراكية. ثم من جهة، أخرى، لم يتمكن الرئيس الاشتراكي "هولاند" من تقديم حصيلة مُقنعة عن ولايته، لاسيما في القطاعات والانتظارات الأكثر تأثيرا وضغطا على الفرنسيين والأوروبيين عموما، من قبيل: خفض معدلات البطالة، ومحاربة التطرف والإرهاب، وإنعاش الاقتصاد، والحد من موجات الهجرة، وحماية القدرة الشرائية للمواطنين، لاسيما الشرائح الأكثر تضررا من آثار الأزمة المالية وانكماش معدلات الإنتاج.

لذلك، تبدو الصورة الأولية لما ستكون عليه الانتخابات الرئاسية المقبلة في فرنسا قريبة من الاكتمال والوضوح، على الأقل بالنسبة للقوى المتنافسة وأوزانها. فمن جهة، هناك يمين ووسط يمين، متجانس ومستعد للمبارزة الانتخابية، يقوده مرشحه الفائز في الإنتخابات الأولية "فرانسوا فيون". وفي الطرف الثاني، هناك "اليمين المتطرف"، تقوده زعيمة "الجبهة الوطنية" "ماري لوبين". أما القوة الثالثة، أي الاشتراكيون، فستفرز انتخابات نهاية شهر يناير/كانون الثاني من سيقودها. والواقع أننا اعتمدنا دروس التجارب الانتخابية السابقة في فرنسا، واتجاهات الرأي العام، فالتطور يوحي لنا بأن حظوظ اليسار ضعيفة في الفوز، واليمين المتطرف مازال غير مقبول من قبل أغلبية الفرنسيين، واليمين ووسطه هو الراجع داخل هذه المبارزة، أي عودة "الديغوليين" ومن تفرع عنهم إلى دائرة الضوء، أي إلى سدة الحكم. 
التعليقات (0)