قضايا وآراء

لو غدت أمالكم في ذاتكم

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
بحسه الفطري وإدراكه العميق تبين لعبد الله النديم(1842-1896) أحد كبار رجال الإصلاح في القرن التاسع عشر، أن القوة الحقيقية التي يجب أن تستند إليها الأمة في النهوض والتقدم هي قوة (الناس العاديين)، وأن هؤلاء الناس لن يتحولوا إلى قوة ذات بأس إلا بالتعليم والتنظيم.. إذن فلابد أن تتجه الحركة الإصلاحية أولا إلى الإنسان المصري حيثما كان لتعليمه وتنظيمه.
أخذ النديم يدعو إلى فكرته في إنشاء الجمعيات التي تقوم بهذا الهدف على طول البلاد وعرضها، وأسس بنفسه أول جمعية في الإسكندرية في 1879م وتحددت أهدافها في التعاون على فتح مدارس للبنين والبنات لجميع أبناء الشعب، ونشر المعارف ليتزود بها الناس.   

ويبدو أن نجاح الفكرة في الإسكندرية بعد عام من تطبيقها شجعه على الذهاب إلى القاهرة فأسس جمعية المقاصد الخيرية في 1880م، ثم اتجه إلى القرى والنجوع يدعو أصحاب الرأي إلى إنشاء جمعيات، وتألفت على يديه جمعيات كثيرة ودخلها الناس بكثرة. سيأتي بعد ذلك د .حامد ربيع رحمه الله (1925-1989) ويعرفنا أن الديمقراطية مثل الهرم قمته السلطات الثلاث تشريعية وتنفيذية وقضائية ومنتصفه الأحزاب والنقابات والمؤسسات، وقاعدته وهي الأهم الجمعيات الأهلية والتعاونيات والمحليات. 

لم يتمكن النديم من تحقيق أهدافه وكرر الخطأ نفسه الذي سيحكيه التاريخ كثيرا عن الإصلاحيين، وهو التعجل والمسارعة إلى الثمرة قبل نضجها، فوجد في طريقه عرابي وأصحابه يتجهون إلى قمة الهرم بالقوة العسكرية، فودع طريق الزحف البطيء الهادىء وانغمس بكل كيانه في الثورة العرابية؛ إذ خلبت لبه فكرة الثورة بالقوة دون الحاجة إلى التكوين الاجتماعي الصلب، فكان للثورة لسانها القاطع وخطيبها الساطع وفشلت الثورة العرابية .

 سيحدثنا التاريخ بعدها عن الخيانات التي اخترقت ظهر عرابي فلم يكن الشعب قد استوعب وتعلم ما يكفي للمشاركة في إنجاح وإتمام فكرة التغيير، واحتلت انجلترا مصر 1882م واختفى النديم في بحر الحياة، ولو كان الرجل أكمل مشروعه الكبير لكان للوطن ذخيرة كبيرة من قاعدة الهرم الذي حدثنا عنه د.حامد ربيع.   

سنعرف أن الشيخ محمد عبده (1849-1905) الذى كرر تجربه القوة والثورة مرتين مرة مع عرابي ومرة مع الأفغاني، وسجن ونفي ورأى بعينه انقسامات الحركة الوطنية والاختراقات السهلة لها، فوقر لديه يقين بعقم كل المحاولات الثورية والسياسية، وضرورة الاعتماد على الشعب لإحداث النهضة المنشودة وتسليحه بالعلم والمعرفة. 

فطلق السياسة بمعناها المباشر لا بمعنى الوعي والإدراك للواقع وما يؤثر فيه، وأخذ يردد لتلاميذه (إن السياسة أضاعت علينا أضعاف ما أفادتنا، وإن الأفغاني كان صاحب اقتدار كبير لو صرفه ووجهه للتعليم لأفاد أكبر فائدة، وقد عرضت عليه ونحن في باريس أن نترك السياسة معا ونعلم ونربي من نختار من التلاميذ، فأجابني الأفغاني إنما أنت مثبط ). ومات محمد عبده وهو يؤمن أن مشكلة مصر الكبرى تكمن في (عدم سريان روح التربية الشرعية العقلية التي تجعل إحساس الإنسان بمنافع بلاده كإحساسه بمنافع نفسه، وشعوره بأضرار وطنه كشعوره بأضرار ذاته).

قلت للعفريت أبدل كل أصحاب الصروح الفاسدة، قال لي ما الفائدة؟سوف يأتي مثلهم أو ربما أكثر منهم مفسدة، إنما تختلف الأسماء لكن المعاني واحدة. قلت ما الحل إذن؟ قال بسيط؛ لو غدت آمالكم في ذاتكم. 

حوار خيالي بين الشاعر الشهير أحمد مطر وعفريت الإبريق..لكنه مليء بأدق توصيفات الواقع.
(آمالكم في ذاتكم)، وذاك ما بدأ به كل الإصلاحيون الكبار في القرنين الماضيين ولم يكملوه. ماذا علينا لو سلكنا الطريق القديم القويم؟ فنعمل على تأسيس جمعيات في مختلف المجالات ننظم فيها الناس فتتكون منهم تكتلات قوية، ويتكون منها بالتتابع مجتمع قوي (معرفيا وتنظيميا)، وليتم ذلك في حركة جماهيرية واسعة . 

وقد تتكون بعد اكتمال التجربة ونضجها من هذه الجمعيات والتكتلات أحزاب حقيقية تتناوب السلطة وتتنافس على خدمة الوطن وإعلاء شأنه، بعد أن يكون الفاسدون قد أهلك بعضهم الآخر، أو هلكوا فيما بينهم.

متى نعتبر أن الزمن يعمل لصالحنا ..إذا ما كانت بالفعل آمالنا في ذاتنا؟
0
التعليقات (0)