مقالات مختارة

ما بعد الاستباحة والجنون الإسرائيلي

مهند عبد الحميد
1300x600
1300x600
في سياق البحث عن أسباب إغلاق حكومة نتنياهو لكل المسام -ولا أقول الأبواب والشبابيك- التي قد تؤدي إلى حراك سياسي يطرح قضية إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان، شدني بقوة عرض كتاب بعنوان "ما بعد إسرائيل.. نحو تحول ثقافي"، للكاتب "مارسيليو سفيرسكي"، المتخصص في الدراسات الدولية في مدرسة الانساتيات والبحث الاجتماعي - ترجمة سمير عزت نصار، موقع جدلية الإلكتروني. 

قرأت عرض الكتاب بتمعن وتركيز ولسان حالي يقول: وجدتها. إذا أردت أن ألخص العرض في جملة صغيرة جدا: "لا تحاولوا بتاتا، وبالمصري: "غطيني يا صفية"، وبالإنجليزي: "لا تحاول إمساك النهر بيديك". 

يقول الباحث بما معناه إن سوسيولوجية هذا المشروع غير قابلة للإصلاح فهو الوحيد القادر على تشويه وتخريب المستفيدين منه وتدمير ضحاياه بوتيرة دائمة ومتصاعدة ومنهجية في الوقت ذاته.
فقد تحطمت بضربة واحدة النوايا الطيبة لتأمين وطن في فلسطين لليهود المضطهدين باللحظة التي فرضت فيها الحركة الصهيونية طرد الشعب الفلسطيني من وطنه. وأصبح الامتياز الإسرائيلي اليهودي يتأسس على تجريد الفلسطيني من حقه في أن يكون له حق، ونقل ملكيته لأرضه وممتلكاته وموارده إلى ملكية الإسرائيليين، لنكون أمام نوع من الاضطهاد الدائم الذي يستند إلى تأسيس جهاز دولة ينظم حياتها وعلاقات أفرادها على نظرية دينية ثيوقراطية أزلية. وهذا الأمر غير ممكن بحسب تاريخ المجتمعات التي زالت فيها الدول الدينية مع مرور التاريخ وتطوره". 

منذ البداية اختار المجتمع الإسرائيلي أن يمرر أخطاءه بصمت. واستخدم ذاكرة الهولوكوست في تبرير العنف الدموي الممارس ضد المجتمع الفلسطيني، وفي تبرير بناء مصالحه على أنقاض مصالح الشعب الفلسطيني، بدءا بالاستعمار الكولونيالي لفلسطين، مرورا بالتطهير العرقي العام 48، واحتلال 67، والإقصاء المثابر والبنيوي للمواطنين الفلسطينيين (السكان الأصليين) في إسرائيل، وانتهاء بالتمييز العنصري الطبقي ضد اليهود الشرقيين". العنف الإسرائيلي الممارس ضد الفلسطينيين لم يسبب في كل مراحله أي إزعاج للإسرائيليين ولا أي اهتمام أخلاقي - باستثناء قلة -ووصل الأمر بالباحث للقول: إن المجتمع الإسرائيلي قد لقح نفسه ضد التفكير الأخلاقي!". وعلى امتداد قرن أزيل كل طموح أو محاولة دولية لطموح بحياة يشترك فيها الإسرائيليون والفلسطينيون. 

ويتحدث مارسيليو سفيرسكي في محصلة عرضه عن ضرورة تحول ثقافي في إسرائيل لصالح جميع ضحايا الصهيونية اليهود والفلسطينيين. تحول يقطع مع طريقة وجود الإسرائيليين اليوم، ويفتح الباب أمام الانتقادات العميقة للثقافة والفكر الكولونيالي العنصري الإقصائي، وإعادة التفكير بثنائية فلسطين/إسرائيل وإعادة صناعتها. 

لا أعرف إذا كان الباحث قد توقف عند حبكة المصالح التي تستخدمها الحكومات الإسرائيلية إلى جانب الثقافة والفكر في بلورة المجتمع الذي توحد مع دولته ومؤسساتها على رفض وإقصاء واضطهاد الآخر. 

فالتحول الثقافي وحده لا يكفي لفك أواصر مجتمع مرتهن لمؤسسات دولته. التحول يحدث عندما لا تستطيع الدولة الكولونيالية تأمين البضاعة، عندما تبدأ بدفع الثمن ويتحول مشروعها إلى مشروع خاسر، كما حدث مع مشروع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إلى مشروع خاسر. 

خلاصة الأمر، لا يوجد حل للقضية الفلسطينية في شروط إسرائيل القائمة، مهما قدمت القيادة الفلسطينية من تنازلات ومهما استجابت للشروط الإسرائيلية. فإذا دققنا في المسار السياسي الفلسطيني، من خلال الشروط التي التزمت بها القيادة كالاعتراف بقرارات الشرعية الدولية، والاعتراف المباشر بإسرائيل، ونبذ العنف وقمع الذين يمارسونه، وبناء السلطة المجردة من السلاح باستثناء ما يلزم لقمع العنف، والتبعية الاقتصادية. ماذا كانت النتيجة؟ تعميق الاحتلال والاستيطان واغتيال الزعيم الفلسطيني الحائز على جائزة نوبل للسلام، والذي كان قد ألغيت شراكته لمجرد رفضه شروط كامب ديفيد 2000 كرزمة واحدة. 

والآن، أضيف للشروط السابقة شرط إضافي هو الاعتراف بدولة الشعب اليهودي التي تعني تجريد الشعب الفلسطيني من كل حقوقه الوطنية والتاريخية والتسليم بحقوق تاريخية لليهود في "أرض الميعاد". 

وانتهى الرئيس أبو مازن كشريك لأنه استعان بالأمم المتحدة ومؤسساتها وحاول أن يحتمي باعتراف أكثرية الدول بفلسطين. 

ولنفترض أنه جاء قيادي فلسطيني واعترف بيهودية الدولة في سياق البحث الإسرائيلي عن شريك فإن شراكته ستكون على محك شروط جديدة كالاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل. وهكذا ستستمر متوالية الشروط التي ستأتي على البقية الباقية من الحقوق والوجود الفلسطيني.
إن طلب الفلسطينيين الرسمي والشعبي بحق العودة امتثالا لقرار الأمم المتحدة رقم 194 أو بمجرد حق المهجرين بالعودة إلى وطنهم، فسرعان ما يعتبر هذا المطلب بمثابة شكل آخر لتدمير إسرائيل. كما أن المطالبة الفلسطينية بالتحقيق في جرائم حرب ارتكبها جيش الاحتلال يعتبر اعتداء سافرا على إسرائيل. واعتبر أفيغدور ليبرمان وزير "الدفاع" الإسرائيلي أن طلب فلسطين الانتساب إلى المنظمات والاتفاقات الدولية هو بمثابة إرهاب دبلوماسي. 

وقطعت الولايات المتحدة دعمها لمنظمة اليونيسكو لمجرد قبول عضوية فلسطين وأعلنت حكومة نتنياهو الحرب على اليونيسكو. وكان البند الرئيس في خطاب نتنياهو بالجمعية العامة هو الهجوم على مجلس السلام العالمي بسبب تدوينه الانتهاكات الإسرائيلية وإصداره قرارات تندد بتلك الانتهاكات. 

لقد فات الباحث مارسيليو سيفرسكي كل هذه الاحتجاجات الإسرائيلية الأميركية ضد شعب يطالب بالحقوق التي حددها له العالم، تلك الاحتجاجات التي ترقى إلى مستوى عقوبات تأديبية مخجلة، فضلا عن كونها لا تحترم العقول وتنتمي إلى منطق شريعة الغاب وزمن العبودية الغابرة. 

ووصل الانحدار الإسرائيلي إلى قاع جديدة، في حرب الجيش الأحدث في الشرق ضد الشبان الفلسطينيين، فهو بحسب افتتاحية هآرتس ينفذ كل أسبوع عشرات الهجمات على المخيمات والأحياء والقرى في الضفة في ما يشبه حربا استباقية، فقد قتل شاب وأصيب 32 في مخيم الفوار بهجمات للجيش في مخيم الدهيشة، وفي تقوع أصيب 15 شابا، واقتحامات متواصلة في أحياء وبلدات مدينة القدس. 

وفي أحياء مدينة الخليل والبلدات التابعة للمحافظة، الجنود يطلقون النار على العزل، وعلى من حاولوا إنقاذ جرحى، فقد كشف الفيلم، حول قتل الفتاة وشقيقها على حاجز قلنديا، عن أن الشاب حاول إنقاذ أخته التي قذفت سكينا على الجنود من مسافة 20 مترا وكان هذا مبررا لقتلهما بدم بارد. بمثل ما قتلت من قبلهم طفلة تحمل مقصا. غير أن الحدث الأكثر إثارة هو محاكمة الجندي الذي قتل جريحا فلسطينيا لا يقوى على الحركة من مسافة صفر، تلك المحاكمة التي هرع الجنرالات من أعلى الرتب العسكرية ليبرروا جريمة الجندي القاتل. 

لقد لخصت المحاكمة العتيدة المشهد الأهم في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي سيستمر على هذه الحال ويزداد سوءا، ما لم يحدث تحول ثقافي إسرائيلي، وما لم يتحول الاحتلال إلى قضية خاسرة، عبر استمرار النضال الفلسطيني وتطوره، وعبر تدخل أصحاب الضمير العالمي.

الأيام الفلسطينية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل