كتاب عربي 21

الطقس تحسن في التلفزة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
يمكننا الآن أن نخرج إلى الشارع بلا مطرية. لقد تحسن الطقس في التلفزة. حلت حكومة الشاهد بيننا تسبقها بركاتها. أخيرا توقف إعلام الكوارث عن بث أفلام الرعب عن الحمى النزفية في قفصة وعن أسراب الجراد في مدنين وعن الكوليرا في العاصمة وعن داعش المتربصة خلف الحدود. وعن وقائع أخرى لم يكن محتاجا أن يقدم عليها دليلا لشعب فاغر فاه أمام التلفزة معتقدا أن كل ما يصدر عنها وحي منزَّل. يمكن للشعب الكريم أن يخرج الآن فرحا مسرورا بالنهاية السعيدة لثورة مزعجة أربكت خياله. جوقة الإعلام إياها تقول له تناول حبوب الاستبشار وقم لتونس فقد وصل الشاهد. لقد قالت له ذات ثورة خذا أمشاط الحديد واندب وجنتيك حزنا على زمن السعادة النوفمبري سيصدقها الآن وينضد باقات الورد البلاستيكي لتكون الصورة أجمل وينام قرير العين على الخراب القادم فالتلفزة قالت أن الربيع قد قدم بأغسطس.

على الأرض من لا يستحق الحياة

وهذا عنوان فاشي لفقرة سوداء. فالانقلاب الكامل بنسبة 180 درجة في وسائل الإعلام التونسية يكشف أن الكارثة أكبر مما توقعنا. فخمس سنوات من حرية التعبير لم تنفذ إلى عقول الطاقم الإعلامي الذي أسقط الترويكا وينصب الآن الشاهد ملكا على قلوبنا فبعض الصحفيين وإن عجز دون النسيب يوشك أن يجعل من عيني رئيس الحكومة الزرقاوين مصدر لجمال الكون.

نفس الوجوه ونفس المؤسسات الإعلامية عمومية وخاصة لها طاقم ثابت على موقف محدد رفض كل ما نتج عن ثورة فقيرة إعلاميا. وجوه أخذت على نفسها عهدا أن تعيدنا إلى الإعلام النوفمبري (إعلام بن علي). دون أدنى شعور بأن التغيير ممكن وأن الإعلام الحر يرافق التغيير ويقدم به نحو المزيد من الحريات دون تناقض حقيقي مع تجديد الحكومات. وجوه وأقلام تشتغل في خلفية الأجهزة القديمة خالقة الفساد وراعيته والمتمعشة منه وتروج لها ضاربة عرض الحائط باحتمالات التعدد والاختلاف. لسان فرعوني لا يرينا إلا ما يرى فالجميل في أعيينا قبيح في أعينهم والكارثي في واقعنا هو ربيعهم الذي به يبشرون. 

إعلام معاد للحرية ومخرب لوعي الناس. يقوده أعداء الحرية وينجحون حكوماتهم في التلفزة. ولا يهتمون بأن يصل الناس لاحقا إلى أن الأخبار الجميلة في التلفزة تعبر عن نفسها بأكداس المزابل في الشارع. فالإعلام قال إن لا ضرورة لانتخابات البلدية الآن. الناس لا وجود لهم. فأيامهم عسل لأن الشاهد وصل.
الشعب ليس جاهلا ولكن الإعلاميين بلا ضمير.

انتقد كثير من الكتاب فشل حكومات ما بعد الثورة في بناء ماكينات إعلامية قوية تواجه إعلام ما قبل الثورة. وهذا صحيح فقد سقطت حكومات ورؤساء تحت ضربات الإعلام المركزة (في تونس كما في مصر) وكانت بلاهة التلقي الفاقد للحس النقدي سببا في قبول ما يروج باطلا على أنه حقائق ثابتة.

هذا الفشل نبيل لأنه فضل الحرية على القمع والسيطرة والتحكم. لقد تحمل كلفة الحرية بأكثر مما تحتمل الحرية وكان يحارب بالحقائق القليلة ماكينة تصنع الأكاذيب كل صباح. حتى انتشرت نكات شعبية عن ضرورة وضع وزارة تكذيب الإشاعات اليومية. 

غرفة إعلام الثورة المضادة صنعت حالة كابوسية هيمنت على أرواح الناس.وجعلت أفق الأمل في الثورة وإفرازاتها السياسية حالة ردة يجب العودة إلى ما قبلها لتطمئن القلوب. والآن ترفع الكابوس لتشرق الشمس. نفس المهمة، بما يعطي شعورا يقينيا أن النظام الآن قد عاد إلى ما  قبل الثورة. وأن من يحميه الإعلام الآن ويروج له كفتح مبين هو سليل النظام السابق ويشتغل بطريقته الفاجرة ضد الحريات. 

لقد جاء على هؤلاء الإعلاميين حين من الدهر كانوا يتهافتون فيه على مقرات الأحزاب الحاكمة زمن الترويكا وخاصة حزبي النهضة وحزب المؤتمر عارضين خدماتهم بأسعار بخسة. ونزل سعر الافتتاحية إلى خمسين دينارا ونزل سعر البلاتوه التلفزي إلى تشغيل قريب أو سفرة إعلامية مع وزير. لكن لمّا تبين أن الحكام الجدد أيديهم مغلولة أو يردون ردودا من قبيل إذا لم تكن مقتنعا بسياستنا فلا تكتب لصالحنا عاد الإعلاميون يصنعون الإشاعات كل صباح وبقيت الحكومة النبيلة أو البخيلة تلاحق بالتكذيب ولا تفلح.

أما الشاهد ومن شَهَّدُه فقد استعاد تجار المقالات والبلاتوهات، قبل أن يعلن الحكومة فلما نزلت الحكومة في الصيف تغيرت الفصول ونحن الآن في ربيع الإنقاذ الوطني بحكومة تهدد شعبها بالتسريح الوظيفي لكي تخلق تنمية اجتماعية

النجاح الإعلامي لن يحل المشاكل المتراكمة

هذا يقين ترسخ ولنا عليه وقائع شاهدة فعندما وصلت دولة بن علي إلى فشلها الذي أسقطها كانت آلته الإعلامية تقول بالنجاح الاستثنائي لتونس في محيطها العربي والدولي وكانت الأرقام تصنع في حواسيب معزولة عن الواقع وتخرج للناس في التلفزة حتى تكشفت الحقيقة بالثورة. العلاجات المؤقتة والمحدودة التي قامت بها حكومات ما بعد الثورة لم تغير من واقع الحال شيئا. لكن الإعلام أفسد عليها قليلها الذي أنجزته وقد أدرك الشاهد ومن شهَّدَه أن ربح معركة الإعلام قد يكون ربح معركة البقاء (كما كان الوهم سائدا في ما سبق الثورة) لكن الناس المُجَهَّلين برغمهم وصلوا مرحلة يقارنون فيها الخطاب بالواقع ويكتشفون أن الربيع التلفزي هو خريف في الشارع يفتح على شتاء قاس في جيوبهم وفي قوت يومهم. وستزيدهم إجراءات التقشف التي تعتزم حكومة الشاهد الشروع فيها بسرعة يقينا أن الإعلام يجرم في حقهم ويقصف أحلامهم. 

لقد انتهى التنويم المغناطيسي وسيفيق الناس من كابوس الربيع التلفزي الذي تجلى ليلة المصادقة على الحكومة. ليس للوزير الشاب ذي العينين الزرقاوين عصا سحرية ضد الفساد. ولن يقدر عليه ولكي يجتنب مواجهته سيضع ثقل حكمه على الأضعف من الناس. فيرفع الدعم عن المواد الأساسية وسيضع الشركات العمومية في المزاد وربما تصل جرأته إلى التفويت في مصادر الماء والكهرباء (الشركتان الوطنيتان اللتان تمدان الناس بأسباب الحياة الدنيا) ولا شكّ أن عينيه الآن مسلطتان على تفكيك رصيد الدولة العقاري (الزراعي والعمراني) فقد وضع شخصا من غير ذوي الأمانة على أملاك الدولة. أما الفساد فقد استبق الحكومة بشراء الإعلام ليضعه في خدمة حكومة مغلولة اليد دون الفساد. 

لكن إلى متى ستكتفي الحكومة بالإخبار عن النجاح دون أن يشعر الناس بذلك في أرزاقهم؟ لعل أهم بركات الفشل أنه يصفع الناس في غفوتهم وفي استسلامهم  المرضي لآلة إعلامية بلا ضمير. ولقد كتبت سابقا أن هذه الحكومة لن تحتمل العمل تحت سقف حريات مرتفع وما استيلاؤها المسبق على أهم الإذاعات والتلفزات الخاصة والعامة إلا استعداد لقمع الحريات لكن هنا أيضا عليها أن تواجه بذرة حرية صلبة زرعتها ثورة وعت أن الخبز طيب لكن الحرة ألذ.رغم طاقم الإعلام المبيوع.
التعليقات (0)