قضايا وآراء

ولماذا نعتب على تركيا؟

غازي دحمان
1300x600
1300x600
بات لزوما علبنا التهيؤ لاستدارة تركية في سورية، القراءة الواقعية تقول ذلك، وتركيا نفسها تضخ كل يوم مؤشرات جديدة عن هذه الاستدارة، وبغض النظر عن المسار الذي سيتخذه التحول التركي، والزمان الذي سيستغرقه، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن الأمور تتغير في المنطقة، وأن عالم السياسة يبقى على الدوام مفتوحا على مختلف الاحتمالات، ومن بينها تلك التي لا نحيها ولا نرغب في تصوّرها.

تحاول تركيا التحوّل إلى نمط جديد من التعامل مع الحدث السوري يتمثل بإدارة الأزمة بدل الانخراط فيها كطرف واضح، ولا شك أن الإدارة تتطلب وجود شبكة علاقات واسعة مع أطراف الصراع الداخلية ومع الأطراف الإقليمية والدولية، وبالتالي فإن السياسات التركية الجديدة القائمة على مد الجسور مع روسيا وإيران والمهادنة مع نظام الأسد تشكّل محاولة لبناء البنية التحتية اللازمة لعملية الإدارة القادمة.

لكن ذلك لا يعني أن تركيا قذفت بجميع أوراقها واستثماراتها في سورية، بل المتوقع أن تستخدم نفوذها وعلاقاتها تلك في دورها الجديد، وذلك لقناعة جميع الأطراف أن بقاء تركيا طرقا فاعلا في الحدث السوري وضبطها وتنظيمها للهياكل والأطر التي لها علاقة معها في الداخل السوري أكثر جدوى من تحوّلها بشكل مطلق عنها، ما قد يجعلها أطرافا دون مرجعية إقليمية تمون عليها.

تستطيع تركيا المناورة تكتيكيا والتموضع ضمن مساحات رمادية لتبرير التحوّل الحاصل في سياساتها السورية، ولم يفت هذا الأمر بعض المسؤولين الأتراك الذين مهدوا لهذا التحوّل بالتأكيد على أن إنهاء الأزمة السورية بات يدخل في إطار المصالح التركية، جراء موجات التداعيات التي لا تتوقف، وأنه بالإضافة لذلك، ثمة فرصة لتحقيق إنجاز على صعيد حل الأزمة في ظل توفّر مناخ مساعد يتمثل بالتفاهمات الحاصلة مع روسيا وإيران، والتي من الممكن الاستناد عليها لبناء تسويات مقبولة من جميع الأطراف.

المنطق يقول أنه بالنسبة لتركيا لا تعدّ قضية من يفوز في الصراع مسألة مصيرية، وأن أي طرف يقود السياسة في سورية مضطر لإجراء تفاهمات وحد أدنى من التنسيق وإدارة العلاقة بين البلدين؛ حفاظا على مصالحه بالدرجة الأولى، كما أن الإشكاليات التي أحدثها الصراع في سورية، ورغم تأثيرها على الأمن القومي التركي، إلا أنها تبقى قابلة للاحتواء، وليست إشكاليات بنيوية عميقة، بالإضافة لذلك تستطيع تركيا التعايش مع السيطرة الإيرانية أو الروسية على سورية طالما هي قادرة بالأصل على التفاهم مع هاتين الدولتين وتدير علاقات الجوار معهم منذ الأزل.

إذا لماذا نعتب على تركيا؟ الأجدر بدل من ذلك أن نسأل العالم العربي، والذي باستثناء عدد محدود من الدول -لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة- لم يصل إلى حد إدراك أن بقاء نظام الأسد في السلطة يشكل أكبر خطر عليه؛ لاستدعائه التدخلات الإيرانية والروسية التي فتّتت النظام العربي ووضعت أمنه الإقليمي في مهب مصالح القوى الإقليمية والدولية ورهن مساوماتها وتفاهماتها، بل أكثر من ذلك، لم تخجل أنظمة الحكم العربي في دعم نظام الأسد، علانية أو مواربة، البعض لاعتقاده أن ذلك سيساهم في تدعيم شرعيته، والبعض الأخر أراد بخبث أن تكون نكبة السوريين عبرة لكل من تسول له نفسه الثورة على الحاكم.

نعم، قتلتنا الحسابات المتضاربة والخاطئة لأنظمة الحكم العربي، بل أكثر من ذلك، أن بعض الأنظمة تعتبر أنها غير معنية بنكبة السوريين، وأنها بالأصل غسلت يديها من العرب ومشكلاتهم، وبالتالي لم تعد معنية بالحصائل الأمنية والسياسية الناتجة عن تحطم النظام العربي، وأن صراعاتها الداخلية مع بعض الجماعات والأحزاب أهم بكثير من انشغالها بما يجري وراء الحدود، والنتيجة أن روسيا وإيران وعبر البوابة السورية باتت تتحكم برقبة العالم العربي كله، أصبحت إيران تقوم بعمليات التشييع في وضح النهار وبشكل علني في عواصم عربية عديدة، وصارت روسيا تفرض على شركات الغاز في بعض الدول احتكار عمليات التسويق لصالحها عبر شركة " غاز بروم" أو فلا إمكانية لدخول الأسواق.

من المعيب أن نعتب على تركيا ونلومها أخلاقيا في حين أن عالمنا العربي رفض تحمّل مسؤولية القيام بدوره، ليس فقط من أجل إنقاذ السوريين، بل لحماية مصالحه بالدرجة الأولى، فلم يتنبه أحد من جهابذة الأنظمة العربية أن العالم الخارجي يبني سياساته الطامحة للسيطرة على العالم العربي من خلال الاختبارات التي يجريها حول مدى التنازلات التي يقدمها العرب عن مصالحهم الأمنية، التي من المفترض أنها تشكل كتلة متماسكة، وأن أي تنازل يمهد لخسارة جديدة على هذا المستوى، وأن الأمر يتحول إلى دينامية تشتغل على محاصرة الأمن العربي وتقليص خياراته وإمكانياته. 

كان الأولى مساعدة تركيا على الصمود على موقفها، واعتباره إضافة مهمة لقوة النظام العربي، واستثمار فرصة وجود قيادة تركية تصطف إلى جانب قضايا العرب، لكن ما حصل أن الأنظمة العربية تبارت في العداء لتركيا والإضرار بمصالحها، هكذا، مجانا، ودون أي سبب، فلماذا نعتب؟. 
0
التعليقات (0)