قضايا وآراء

هل لليسار الثقافي أفضلية أخلاقية أو سياسية على خصومه "الرجعيين"؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
لنفترض جدلا أو اعتباطا أنّ زعماء العائلة الديمقراطية ومناضليها قرروا في إطار التصالح مع مقدسات هذا الشعب –أو لما غلب عليهم من النور الذي قذفه الله في صدورهم من جهة المنّة والفضل لا من جهة الاستحقاق - أن يصبحوا من رواد المساجد ومن المحافظين على صلوات الجماعة والجمعة والتروايح وغيرها من النوافل والقُربات، فهل يحق للنهضويين خاصةَ وللإسلاميين عامة أن يعتبروا ذلك نوعا من "الاندساس" في الفضاء المسجدي، وهل يحق لهم المصادرة على نوايا "العلمانيين" والتشكيك فيها، وهل يجوز لأي متدين التشغيب على "الديمقراطيين" أثناء ممارسة حقوقهم "الروحية" داخل المساجد أو خارجها؟

لا شك في أنّ الإجابة عن هذا السؤال ستكون بالنفي، أي بانتفاء الحق الشرعي والقانوني والدستوري الذي يمكن للإسلامي أن يستند إليه لمنع غيره من "العلمانيين" من دخول فضاءات العبادة وممارسة طقوسهم فيها، وذلك بصرف النظر عن نواياهم وعن سياسات أحزابهم وعن مواقفهم من علاقة الدين بالدولة وبحركات الإسلام السياسي. فكل هذه العوامل -متفرقة أو مجتمعة- لا يمكن أن تمنع أي مواطن تونسي من دخول "مساجد الله" التي لا يحق لأي طرف –بما في ذلك الدولة ذاتها- أن تمنع الناس من ارتيادها ومن ممارسة طقوسهم فيها إن هم احترموا القانون والأعراف المرعيّة.
 
في السياق التونسي، يبدأ الإشكال عندما نخرج من "بيوت الله" التي هي لكل عباده بلا استثناء والتي يتفق كل الفاعلين الجماعيين على ضرورة تحييدها بإبعادها عن دائرة التجاذبات السياسية والصراعات الإيديولوجية. ولأنّ سؤال هذا المقال ليس سؤالا دينيا بل هو سؤال سياسي بالأساس، فإن ما يهمنا هو الإشكال التالي: عمليا، هل يقبل "الديمقراطيون" بأن تكون الفضاءات غير الدينية هي أيضا لجميع المواطنين بصرف النظر عن مرجعياتهم الإيديولوجية وانتماءاتهم الحزبية، أم إنّه لا يحق لنا أن نقيس الفضاء الجمعياتي إلى الفضاء الديني، أي لا يحق لنا إلا التسليم بالنسق الحجاجي "الديمقراطي" الذي مداره على اعتبار العمل الجمعياتي والنقابي "امتيازا" لبعض الأطراف"التقدمية" و"الحداثية" دون سواهم من"الإسلاميين" خاصةً- باعتبار أنّ القول بأنّ المنظمات والجمعيات والنقابات هي "حصون" مستعصية على الرجعية –بما في ذلك الرجعية الدستورية -التجمعية- هو قول مرسل لا تشهد له الوقائع ولا تسنده التحالفات قبل الثورة وبعدها-؟ 

أعادت الانتخابات الأخيرة لعميد المحامين ولهيئتهم المديرة مسألة الصراعات/التحالفات القطاعية إلى واجهة المشهد العام. وقد كان لنتائج هذه الانتخابات بعدا رمزيا كبيرا من جهة ما بعثت من رسائل سيئة إلى من يسمون أنفسهم بـ"القوى التقدمية" في القطاعات الأخرى، وهو ما يظهر جليا في المقال الذي كتبه السيد الأسعد اليعقوبي "المناضل القومي" والأمين العام لنقابة التعليم الثانوي الذي "حذّر" من تكرار السياريو ذاته في انتخابات الاتحاد العام التونسي للشغل. لا شك في أنّ المحامين الذين تحصلت عمادتهم على جائزة نوبل للسلام مع باقي الأطراف المشكلة للرباعي الراعي للحوار الوطني -وهي الاتحاد العام التونسي للشغل، منظمة الأعراف، والرابطة التونسية لحقوق الانسان-، كانوا وما زالوا طرفا هاما في توازنات القوة المتحكمة في تونس قبل الثورة وبعدها. ولعل ما يعكس أهمية هذه الانتخابات القطاعية وتأثيراتها المحتملة على سائر القطاعات الأخرى، هو صيحات الفزع الصادرة من عدة جهات "ديمقراطية" بعد انتصار حليف النهضة في العمادة وصعود هيئة جديدة أغلبها من النهضويين أو من الإسلاميين غير المتحزبين، مع بعض العلمانيين غير المحسوبين على التيارات الاستئصالية.

رغم الاختلافات الكبيرة في تقييم نتائج انتخابات المحامين وفي تحديد آثارها السلبية على استقلالية القطاع و"نضاليته" ضد سياسات الدولة، رغم تلك الاختلافات فإن الجميع يتفقون على أنّ العميد الجديد الأستاذ عامر المحرزي لم يكن ليصل إلى كرسي العمادة من الدور الأول لولا حصول "توافقات" سياسية بين الإسلاميين والتجمعيين -خاصة نداء تونس-، ولعل ما يؤكد ذلك هو تركيبة الهيئة الجديدة ذاتها. إذا فاز بعضوية الهيئة ستة أساتذة من قائمة الإسلاميين وثلاثة من قائمة الأستاذ عامر المحرزي وثلاثة من المستقلين (أحدهم محسوب على الاسلاميين) مع تجمعي واحد ومرشح قومي. وهو ما يعني أنّ الإسلاميين -من النهضويين والإسلاميين غير المتحزبين- مع حلفائهم في قائمة الأستاذ المحرزي ومع المحسوبين على التجمعيين سيتمتعون بالأغلبية المريحة داخل الهيئة (فهم 10/14 من جملة الأعضاء المنتخبين).

لا يمكن للمراقب المنصف أن ينكر أننا أمام هيئة قطاعية شرعية، ولكنّ هذه الهيئة –رغم شرعيتها- تثير بحكم تركيبتها –وبحكم السياق الذي تأتي فيه- جملة من المخاوف التي لا نستطيع إنكار ما يؤسّس بعضها من حجج قويّة. فنحن لسنا محتاجين إلى الطعن في مهنية الهيئة وفي انحيازها لمصالح القطاع حتى نتوجّس خيفة من إمكانية خضوعها لرهانات وإكراهات وحسابات ليست بالضرورة مهنية. ولكنّ "شيطنة" La Diabolisation هذه الهيئة والتشكيك فيها والمصادرة على أدائها حتى قبل أن تبدأ في أعمالها هو ضرب من التلبيس والتسييس الخفيين اللذين لا يختلفان في شيء عن "أمثلتها" Idéalisation وجعلها فوق التحيزات والصراعات التي تخترق المجتمعين السياسي والمدني.

لم يكن قطاع المحاماة -مثل باقي القطاعات المهنية- بعيدا عن التجاذبات السياسية والاصطفافات الإيديولوجية قبل الثورة وبعدها، بل لم يكن يوما بعيدا عن الاستراتيجيات السلطوية التي حاولت دائما أن تهيمن على المجتمع المدني ومنظماته الأساسية أو على الأقل أن تحيد تلك المنظمات وتقلل من قدرتها على مواجهة اختياراتها الكبرى في مختلف المجالات. ولعلّ ما طبع فترة حكم بن علي -بدءا من محرقة الإسلاميين في أوائل التسعينيات من القرن الماضي- هو الإقصاء النسقي للإسلاميين من الجمعيات المدنية والمنظمات النقابية بعد أن أُقصوا من دائرة الفعل السياسي بالصورة "الهولوكستية" المعروفة. 

بصرف النظر عن الدور الحقيقي الذي مارسته النخب "الديمقراطية" في عملية الإقصاء هذه، من المؤكد أنها كانت عمليا هي المستفيد الأكبر من الصدام الدموي بين النظام الحاكم وبين النهضويين. فالنظام التجمعي الحاكم كان يحتاج إلى العقول "التقدمية" في أجهزة الدولة القمعية (بجناحيها الإيديولوجي والأمني)، ولكنه كان يحتاجهم أيضا لتحييد الإسلاميين بل لمنعهم من الفعل المدني والنقابي. وقد ولّد هذا السلوك السلطوي "الاستبدادي" جملة من الوضعيات المهنية "اللاسوية". فـ"التمييز الإيجابي" للقوى التقدمية زمن بن علي اكتسب –بحكم ما تولّد عنه من امتيازات مادية ورمزية- قد اكتسب عند أصحابه نوعا من "البداهة" ومن "الحصانة" التي رسخها دوره في المنظومة الحاكمة وذلك رغم تعبيره عن دينامية مجتمعية وتوازنات قطاعية سمتها الإكراه لا العفوية. وقد كان من الطبيعي بعد الثورة التونسية أن نشهد مقاومة عنيفة لأية استراتيجيات تريد تغيير تركيبة المجتمع المدني وطبيعة رهاناته والهوية الإيديولوجية للفاعلين الأساسيين فيه، كما كان من المتوقع أن يتصدى الفاعلون "الديمقراطيون" للوافد الإسلامي (النهضوي خاصةً) وذلك لأنه سيهدد بالضرورة تلك التوازنات والامتيازات التي صارت عند أصحابها ضربا من "الحق الطبيعي" أو من "الرأسمال الرمزي" الذي لا يقبل المنافسة ولا القسمة إلا ضمن "العائلة الديمقراطية" حصرا.

يسوق"اليساريون" المشككون في العميد الجديد وفي الهيئة المنبثقة من الانتخابات الأخيرة حجةً أساسية مدارها أنّ التحالف بين "الرجعية التجمعية" و"الرجعية النهضوية" لا يمكن أن يخدم قطاع المحاماة، بل سيؤثر على الدور النضالي الذي لعبه القطاع دائما ضد السياسات اللاوطنية للأنظمة الحاكمة قبل الثورة وبعدها. ولكنّ الوقائع تؤكد -على الأقل بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 التأسيسية- أنّ "تناقض" القوى اليسارية الثابت والجوهري وغير القابل للتجاوز هو مع "النهضة" (وما تسميه بالرجعية الدينية) وليس مع التجمع (وما تسميه بالرجعية البرجوازية). لا أحد ينكر أنّ القوى اليسارية حتى الراديكالية منها قد تحالفت –على الأقل بعد الثورة- مع "الرجعية التجمعية" المتحولة إلى نداء تونس وغيره من التشكيلات السياسية والجمعياتية المرتبطة بالمنظومة الدستورية-التجمعية الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وبصرف النظر عن الطبيعة التكتيكية أو الاستراتيجية لذلك التحالف، فقد التقت القوى اليسارية مع "الرجعية التجمعية" في أكثر من موعد بدءا من جبهة الإنقاذ، مرورا باعتصام الرحيل وانتهاء بالانتخاب المفيد و"الجبهة الرئاسية" التي نجحت في "قطع الطريق" على الرئيس المتخلي منصف المرزوقي والدفع بـ"التجمعي" السابق والندائي الحالي الباجي قائد السبسي إلى رئاسة الدولة. 

لو أنّ القوى اليسارية والتقدمية حافظت على المسافة ذاتها من "الرجعيتين" النهضوية والتجمعية بعد الثورة والتمست خطا ثالثا بعيدا عن مصالح الدولة العميقة ورهاناتها الفئوية والجهوية الضيقة، ولو أنّ تلك القوى لم تتحرك منذ تـأسيس التجمع في ثمانينيات القرن الماضي من منطلق التناقض الرئيس (مع الإسلاميين) والتناقض الثانوي (مع الرجعية البرجوازية الحاكمة)، ولو لم تكن القوى اليسارية والتقدمية حليفا موثوقا للرجعية التجمعية في العديد من المحطات المفصلية في بعد الثورة، لكان لها من الأفضلية الأخلاقية والمصداقية السياسية ما يجعل انتقادها للتحالف بين "الرجعيتين" أمرا مشروعا، بل ما يجعل من مساندتها في التصدي لتلكما الرجعيتين واجبا وطنيا. أمّا وقد علمنا باستقراء الأحداث أنّ هذا الانتقاد لا يصدر من موقع مبدئي ثابت وإنما من موقع براغماتي متحوّل، فإنّ منتهى ما يمكننا فعله هو طرح التساؤل التالي: هل يمتلك اليسار- بعيدا عن الادعاءات الذاتية وعن المزايدات الخطابية- أفضلية أخلاقية أو سياسية على النهضة حتى يحاكمها على تحالفها-التكتيكي أو حتى الاستراتيجي- مع التجمعيين؟

مهما كانت اختلافاتنا مع أداء اليسار التونسي قبل الثورة وبعدها، ومهما كانت احترازاتنا على مواقفه من الإسلاميين ومن الواجهات السياسية والجمعياتية للدولة العميقة وللقوى البرجوازية التي تُمثل نواتها الصلبة، فإنه لا يمكننا –من جهة أولى- إنكار حاجة الجمهورية الثانية إلى المضامين الاجتماعية والأطروحات الإنسانية والنزعة الاحتجاجية لتلك القوى اليسارية، كما لا يمكننا -من جهة ثانية- إنكار الآثار السلبية التي قد تنشأ من التحالف بين التجمعيين والنهضويين ومخاطر تغولّهما خارج الحقل السياسي. ولكن مادامت أغلب القوى اليسارية تغلّب المقاربات الثقافوية للصراع على المقاربات الاقتصادية-الاجتماعية، ومادامت تلك القوى -رغم علمانيتها وعقلانيتها وتقدميتها- محكومة بوعيٍ لاهوتيّ خفيٍ هو أقرب إلى صورة المحرّك الذي لا يتحرك –أو المؤثر الذي لا يتأثر-، بل مادامت القوى التقدمية تتعامل مع أفكارها وكأنها حجر الفلاسفة الأسطوريlapis ، philosophorum الذي يغيّر جميع المعادن الخسيسة ولكنه يبقى مساويا لذاته مستعليا عن قوانين عالم الكون والفساد، مادامت القوى اليسارية على هذه الحال، فإنها لن تشعر أبدا بضرورة الاشتغال على أنساقها الفكرية بالنقد الذاتي وبالمراجعات الجذرية، ولن تقبل بأن تكون مجرد فاعل جماعي من جملة فاعلين لا يقلون عنها وطنية ولا عقلانية، وستظل ضحية نزعتها الاستعلائية ومنطقها الأحادي الذي سينتج من الأزمات أكثر مما سيجترح من الحلول.
التعليقات (0)